حين تصبح اللامسؤولية أسلوبَ حكم
في مغربٍ يعيش على إيقاع التحولات الكبرى، تبرز مفارقة صارخة تختزل الأزمة السياسية في صورتها الأكثر تجريداً: وزيرٌ بلا سيرةٍ مهنية، ومشروعٌ بقيمة خمسين مليار درهم بلا أثرٍ في الواقع.
محمد المهدي بنسعيد، وزير الشباب والثقافة والتواصل، يرمز اليوم إلى ظاهرةٍ تتجاوز شخصه لتلامس جوهر الخلل في هندسة السلطة.
فقبل تعيينه، لم يكن للرجل مسارٌ مهني واضح، ولا تجربة إدارية أو أكاديمية معتبرة، ولا أثرٌ فكري أو عملي في المجال الذي يقوده اليوم.
مجرد وجهٍ شاب، برز في محيط النخبة النافذة، وصعد إلى موقع القرار بقدرة القرب لا الكفاءة.
ثم جاءت القفزة التي أثارت الجدل: تأسيس شركة صغيرة برأسمالٍ لا يتجاوز عشرة ملايين سنتيم، تحوّلت بلمسةٍ غامضة إلى مشروعٍ ضخم ممول من المال العام، تحت شعار “صناعة سيارات إيكولوجية مغربية” خمسون مليار درهم أُنفقت باسم الابتكار والتنمية المستدامة، لكن الأسئلة الكبرى ظلت معلّقة: من استفاد؟ ومن راقب؟ ومن حاسب؟
إنها قصة تبدو للوهلة الأولى مجرد حادثة إدارية، لكنها في جوهرها مرآةٌ لزمنٍ سياسي فقد صلته بالمساءلة.
زمنٌ تُمنح فيه المناصب كما تُمنح الهبات، وتُدار فيه المشاريع بمنطق الولاء لا بمعيار الجدارة.
وفي الخلفية، يغلي الشارع.
جيلٌ جديد — جيل Z — يخرج إلى الساحات والشبكات الاجتماعية، حاملاً سؤالاً بسيطاً ومزلزلاً: كيف يُدار وطنٌ بهذه الخفة؟ شبابٌ وُلدوا في زمن الرقمنة، يراقبون أرقام الصفقات، ويتتبعون المراسيم، ويفضحون التناقض بين الوعود والخطاب. لم يعودوا يطالبون بالخبز وحده، بل بالكرامة السياسية: أن يُحاسب المسؤول حين يُخطئ، وأن تُقاس المناصب بالكفاءة لا بالقرابة.
الأدهى أن الوزير الذي يُفترض أنه “وزير الشباب” أغلق باب الحوار مع الشباب أنفسهم، حين عطّل خاصية التعليق على صفحته الرسمية، في لحظةٍ كان فيها الفضاء الرقمي المنبرَ الوحيد لصوتهم.
إنه قرار رمزيّ بليغ: الصمتُ بدل الإصغاء، والحجبُ بدل الشفافية.
في مشهدٍ كهذا، لا تحتاج الرداءة إلى مؤامرة لتزدهر؛ يكفيها الصمت الرسمي والتبرير المستمر.
خمسون ملياراً تُروى عنها القصص، ووزيرٌ بلا سيرةٍ يبرر، وحكومةٌ تكتفي بالشعارات.
وفي المقابل، جيلٌ يُعيد تعريف السياسة خارج مؤسساتها، على الأرصفة وفي المنصات الرقمية، بلغةٍ لا تعرف المجاملة ولا الخوف.
هكذا تتحوّل أزمة وزير إلى أزمة نظامٍ في اختيار رجاله، وإلى علامة على انحدار فكرة الكفاءة في الوعي السياسي العام.
فحين تُكافأ اللامسؤولية بالمنصب، يصبح الصمت أعلى من الصوت، وتتحوّل الدولة إلى مسرحٍ يصفّق فيه الجميع، بينما الجمهور في الخارج يغلي.
لقد تغيّر الزمن.
الجيل الذي أُريد له أن يبقى متفرّجاً صار هو المخرج والناقد والمُحاسب.
أما الوزير الذي أغلق التعليقات، فقد نسي أن التاريخ لا يملك زرّ “تعطيل الردّ”.
