الحكومة المغربية تستعد لمرحلةٍ جديدة من “الانضباط المالي”، تُسوّقها كمنعطف إصلاحي حاسم في مسار الاقتصاد الوطني.
تَعِدُ بتقليص عجز الميزانية إلى 3 في المئة، وخفض المديونية إلى 64 في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي بحلول سنة 2028، وتتباهى ببرنامجٍ يمتدّ على ثلاث سنوات عنوانه العريض: “التحكم في النفقات العمومية وترشيد الموارد”.
الوثيقة الرسمية التي كشفت عنها وزارة الاقتصاد والمالية تحدّد بدقّة ما تسميه “الإجراءات الماكرو-اقتصادية” للفترة 2026-2028:
تجميد التوظيف إلا في حدود الضروري، تقليص نفقات الماء والكهرباء والتنقل داخل المملكة وخارجها، تخفيض مصاريف المؤتمرات والحفلات، الحد من اقتناء السيارات الإدارية، وتقليص الاعتمادات المخصصة للدراسات والخدمات الخارجية.
غير أن هذه الخطة التي تبدو تقنية ومنضبطة، تُخفي في عمقها فلسفة سياسية أكثر منها مالية.
فالحكومة لا تتقشّف على نفسها، بل على مواطنيها.
تُقدّم “التقشف” كعلامة انضباط، لكنه في الواقع ترجمة ناعمة للعجز الاجتماعي، يُجمَّل بلغة المحاسبة والأرقام.
ذلك أن ضبط النفقات لا يعني شيئاً حين لا يُرافقه إصلاح جبائي عادل، ولا شفافية في توزيع الثروة، ولا محاسبة حقيقية لمن التهموا المال العام باسم “الاستثمار المنتج”.
تقول الحكومة إنها تريد تعزيز “السيادة المالية الوطنية”، لكن السيادة لا تتحقق حين يُملى الإيقاع من تقارير المؤسسات المانحة.
وتقول إنها تسعى إلى “تحسين نجاعة الاستثمار”، لكنها تربط الأولوية بالمشاريع الموقّعة أمام الملك أو تلك الممولة من الخارج، كأنّ التنمية لا تُصنع من الداخل بل تُستورد بتوقيعٍ دبلوماسي.
إن التقشف في ذاته ليس جريمة، لكنه يتحول إلى عقاب جماعي حين يُفرض على مجتمعٍ لم يُستشر، ولم يُهيأ له بدائل تحفظ توازنه الاجتماعي.
فالأرقام التي تتباهى بها الحكومة تُعطي الانطباع بالاستقرار، لكنها تُخفي واقعاً متوتراً: أسعارٌ لا تنخفض، خدماتٌ عمومية تتآكل، وإحساسٌ جماعي بأن الدولة تحاسب الشعب على أخطاء السياسات لا على نفقاته.
المفارقة المؤلمة أن المغرب الذي يتهيأ لإنفاق مليارات الدولارات على مشاريع البنية التحتية استعداداً لمونديال 2030، يطلب من مواطنيه أن “يترشّدوا” في استهلاك الماء والكهرباء، وأن يتقشفوا باسم الوطن.
بلدٌ يُنير ملاعبه للعالم، ويُطفئ أنوار مكاتبه على شعبه.
قد تنخفض المديونية فعلاً، وقد تبتسم المؤشرات المالية على الورق، لكن العجز الحقيقي يظل أخلاقياً لا حسابياً:
عجزٌ في الخيال، في العدالة، وفي القدرة على الإصغاء لبلدٍ يريد أن يعيش… لا أن يُحاسَب.
