تُقاس نزاهة الدول بما تحفظه من ذاكرة قبل ما تُنفقه من ميزانيات.
وحين يفقد الإعلام العمومي ذاكرته، فالأمر لا يتعلق بفقدان أرشيفٍ تلفزي، بل بانهيارٍ أعمق في منظومة الحوكمة والثقة.
فقد مثُل عدد من المسؤولين السابقين والحاليين بقناة “تمازيغت”، التابعة للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، أمام الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط، على خلفية شبهاتٍ تتعلق بتبديد أموال عمومية وسوء تدبير مالي.
القضية التي أحيلت على قاضي التحقيق لم تنشأ من فراغ، بل من تقارير رسمية صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات، رصدت اختلالاتٍ هيكلية منذ السنوات الأولى لتأسيس القناة سنة 2010.
كشفت مصادر إعلامية أن مرحلة الانطلاقة تميّزت بغياب هيكلة تنظيمية واضحة داخل القناة، وبارتجالٍ في توزيع المسؤوليات، ما فتح الباب أمام ما وُصف بـ“العشوائية” في تدبير المرفق العمومي.
الأخطر من ذلك أن مصالح الأرشيف كانت تفتقد لعددٍ من البرامج التي صُرفت مقابلها مبالغ مالية مهمة، في حين أكدت شركات الإنتاج المعنية أنها سلّمت الأعمال كاملة وفق العقود المبرمة، لتطفو على السطح أسئلةٌ محرجة:
أين اختفى الأرشيف؟ ومن يتحمّل مسؤولية ضياعه؟ وكيف يمكن للرقابة أن تتأخر إلى هذا الحدّ داخل مؤسسةٍ يُفترض أنها النموذج في الحوكمة؟
القضية اليوم تتجاوز قناة “تمازيغت”. إنها تضع الإعلام العمومي برمّته أمام مرآةٍ صعبة، مرآة الشفافية.
فما يجري ليس مجرد خلل إداري، بل مؤشر على اختلالٍ أعمق في تدبير المال العام داخل قطاعٍ وُجد ليكون صوت المواطن، لا عبئًا على جيبه.
في النهاية، المال العام ليس رقماً في ميزانية، بل مسؤولية أخلاقية ومؤسسية تُقاس بمدى وضوح أثرها على المجتمع.
تأتي هذه التحقيقات في سياقٍ أوسع يشمل افتحاصاتٍ داخل قنواتٍ أخرى تابعة للشركة الوطنية، منها القناة الأولى والسادسة وقناة العيون، في إطار مراجعة شاملة يجريها المجلس الأعلى للحسابات لتقويم تدبير المال العام داخل المنظومة الإعلامية الوطنية.
لكن خلف لغة التقارير وأرقامها، يظل السؤال الأكبر مطروحًا: هل يستطيع الإعلام العمومي إصلاح ذاته من الداخل؟
قناة “تمازيغت” وُلدت لتكون صوت الهوية الأمازيغية، فإذا بها تتحوّل اليوم إلى مرآةٍ لهوية ماليةٍ مرتبكة.
الرهان لم يعُد على من يظهر في الشاشة، بل على من يحمي ما وراءها: الأرشيف، الشفافية، وكرامة المال العام.
ففي الإعلام كما في السياسة، لا يُهدر المال وحده حين تغيب المساءلة، بل تُهدر معه الذاكرة… وتفقد الدولة صوتها الحقيقي.
