حين اعتلت فاطمة الزهراء المنصوري، وزيرة إعداد التراب الوطني والإسكان وسياسة المدينة، منصة مجلس المستشارين يوم أمس 14 أكتوبر 2025، لم يكن خطابها مجرّد عرضٍ تقني، بل لوحة هندسية مرسومة بالأرقام.
قدّمت الوزيرة حصيلة تبدو لامعة: 94 ألف أسرة تستفيد سنويًا من برامج السكن، وتراجع العجز السكني من 326 ألف وحدة سنة 2021 إلى 270 ألفًا في 2024، معتبرةً ذلك “دليلًا على نجاعة السياسات المتبعة”.
لكن ما يُرضي قبة المستشارين لا يُقنع الشارع دائمًا، وما يلمع في الأرقام قد لا يُضيء واقع السكن.
منذ إطلاق برنامج “مدن بدون صفيح” سنة 2004، توالت الحكومات على وعدٍ واحد: مدنٌ بلا هشاشة.
المنصوري أكدت أن 62 مدينة ومركزًا حضريًا أُعلن خاليًا من السكن الصفيحي، باستثمارٍ تجاوز 63 مليار درهم.
لكن في أطراف المدن والقرى، ما زالت الأحياء الناقصة التجهيز تُعيد إنتاج الفقر في شكلٍ جديد، ببيوتٍ إسمنتية تفتقر إلى الماء والصرف الصحي، وبمنازلَ تُمطر مع أول خريف.
البلاد تتغيّر عمرانًا، لكنها لا تتغيّر عدالةً.
تقول الوزيرة إن التحول من “الإيواء” إلى “إعادة الإسكان” يعكس نضج السياسة السكنية.
وبالفعل، ارتفع عدد الأسر المستفيدة من 4 آلاف في الولاية السابقة إلى 34 ألفًا اليوم.
غير أن هذا التحول يبقى شكليًا ما دام الفقر نفسه يُعاد إسكانه في ضواحي جديدة، وما دامت شروط العيش لم تتبدّل سوى في المسافة بين “البرّاكة” و”العمارة”.
المخطط الخماسي الجديد (2024–2028) يستهدف إعادة إسكان 120 ألف أسرة بميزانيةٍ تبلغ 6,5 مليارات درهم.
لكن ذاكرة المغاربة مثقلة بخططٍ خماسية سابقة بدأت بالوعود وانتهت بالبطء الإداري.
فمن دون مواجهة المضاربات العقارية وضمان الشفافية في صفقات الدعم، سيظل الإسكان مشروعًا جميلاً في المذكرات أكثر منه واقعًا في الميدان.
البرنامج الجديد للدعم المباشر للسكن استقطب 167 ألف طلب، أغلبهم من الشباب، وقرابة نصفهم من النساء.
لكن الدعم، المحدود بين 70 و100 ألف درهم، لا يغيّر المعادلة في مدنٍ تُسعّر المتر المربع كأنه حلم.
هكذا يبقى الشباب في قلب الخطاب الرسمي، لا في قلب سوق العقار.
تتحدث المنصوري بلغةٍ منسّقة عن “الهندسة المالية الجديدة” و“العدالة المجالية” و“تسريع الإنجاز”، وهي مصطلحات تليق بتقارير مجلس المستشارين أكثر مما تُقنع المواطن.
ففي الواقع، تظلّ أزمة السكن أحد أكثر مظاهر اللامساواة قسوة: مدنٌ تنمو عموديًا، وعدالةٌ اجتماعية تتقلّص أفقيًا.
ما بين لغة الأرقام ولغة الحياة، يضيع المعنى الأصيل للحق في السكن.
فالسؤال الحقيقي لم يعد كم وحدة سكنية بُنيت، بل لأي مغربٍ تُبنى هذه الوحدات.
هل نُشيّد مدنًا عادلة أم نُجمّل هشاشة قديمة بواجهاتٍ جديدة؟
ذلك هو الامتحان الحقيقي لكل وزيرة تتحدث بلغة الهندسة، في وطنٍ لا يزال يبحث عن معمار الكرامة.
