تتقدّم أرقام وزارة المالية المغربية بخطى واثقة نحو رقمٍ قياسي جديد: 258,1 مليار درهم من المداخيل الجبائية خلال الأشهر التسعة الأولى من سنة 2025، بزيادةٍ قدرها 15,2 في المائة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وراء هذه القفزة الرقمية يختبئ سؤال أكثر عمقًا: لصالح من ترتفع الضرائب، ولمن تُوزَّع ثمارها؟
ففي بلدٍ تتسارع فيه المؤشرات المالية، يتباطأ الإحساس بالإنصاف. وبين لغة الأرقام ولغة الواقع، تتجسّد المفارقة الكبرى: تنمية مالية بلا أثرٍ اجتماعي.
تؤكد وزارة المالية أن معدل إنجاز المداخيل بلغ 80,6 في المائة، وأن الدولة كثّفت مجهودها في تصفية ديون الضريبة على القيمة المضافة لتبلغ الاسترجاعات نحو 18,2 مليار درهم.
وعلى الورق، تبدو الصورة مثالية. غير أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي يروي روايةً مختلفة، حيث يواصل المواطن المغربي دفع الثمن مضاعفًا: مرةً عند الشراء، ومرةً عند استهلاك خدمةٍ عموميةٍ متدهورة الجودة.
فبينما ارتفعت مداخيل الضريبة على الشركات بنسبة 30,9 في المائة، والضريبة على الدخل بـ16,8 في المائة، والضريبة على القيمة المضافة بـ5,3 مليارات درهم، لم ينعكس هذا الأداء المالي على جودة التعليم أو الرعاية الصحية أو النقل العمومي.
الضرائب ترتفع، لكن الثقة العمومية تتراجع.
تعتبر الحكومة هذه القفزة في الإيرادات دليلاً على “نجاعة الإصلاحات” و”اتساع الوعاء الضريبي”، بينما يرى خبراء الاقتصاد أن الصورة أكثر تعقيدًا: التحصيل السهل حلٌّ سريع، لكنه لا يصنع إصلاحًا عادلاً.
فالضريبة على القيمة المضافة تُدرّ ملياراتٍ سنويًا، لكنها تُقتطع مباشرة من جيوب المستهلكين، ما يجعلها الأثقل على الفئات المتوسطة والفقيرة.
أما الشركات الكبرى، التي لا تتجاوز نسبتها 2 في المائة من مجموع المقاولات، فهي وحدها تقريبًا من تملك مفاتيح التسوية الطوعية والمناورات القانونية لتقليص العبء الضريبي.
وبين هذا وذاك، تواصل الطبقة الوسطى لعب دور المموِّل الصامت للميزانية، في ظل غيابٍ شبه تام لسياساتٍ تُعيد توزيع الثروة أو تُخفف من كلفة المعيشة.
يُجمع خبراء المالية العمومية على أن المغرب يعيش مفارقةً صارخة: إيراداتٌ جبائية قياسية دون انعكاسٍ اجتماعيٍّ ملموس.
فبدل أن تُوجَّه هذه الطفرة نحو برامج تنموية، تُستنزف المداخيل في سدّ عجز الميزانية وتمويل النفقات الجارية، بينما تتأجل الإصلاحات البنيوية عامًا بعد عام.
وتُظهر الوثيقة الرسمية حول تحمّلات وموارد الخزينة أن الضرائب تغطي أكثر من أربعة أخماس الميزانية، ما يجعل الدولة تعتمد على جيوب المواطنين أكثر مما تعتمد على مردودية الاقتصاد المنتج أو الاستثمارات طويلة الأمد.
حين يتباهى المسؤولون بارتفاع العائدات الضريبية، يتوارى السؤال الأكثر جوهرية:
هل تحسّن التعليم العمومي؟
هل صار العلاج في المتناول؟
هل تحسّنت الطرق أو تراجعت كلفة المعيشة؟
الجواب، في أغلب الحالات، لا.
ذلك أن الدولة، بدل أن تُعيد استثمار ما تحصّله في الاقتصاد الاجتماعي، تُوجّهه إلى نفقاتٍ تشغيليةٍ أو مشاريعٍ كبرى تفتقر إلى الأثر المباشر على حياة الناس.
في تجارب دولٍ ناشئة كـتشيلي وإندونيسيا، رافق ارتفاع الإيرادات الضريبية إصلاحٌ اجتماعيٌّ شامل في التعليم والصحة والبنية التحتية.
أما في المغرب، فما زال الفارق شاسعًا بين ما تجمعه الخزينة وما يستفيد منه المواطن.
الضريبة، في جوهرها، عقدٌ أخلاقي بين الدولة والمجتمع: يدفع المواطن مقابل خدمةٍ عامةٍ تليق بكرامته.
لكن هذا العقد في المغرب ما زال ناقص التنفيذ.
المواطن يؤدي بانتظام، والدولة تؤجّل الوفاء بالوعد.
وفي الوقت الذي تحتفل فيه وزارة المالية بأرقامها المتصاعدة، يزداد شعور الناس بأنهم يدفعون ثمن التنمية دون أن ينالوا نصيبهم منها.
258 مليار درهم ليست إنجازًا ماليًا فحسب،
بل امتحانٌ حقيقيٌّ لمدى قدرة الدولة على تحويل المال العام إلى كرامةٍ عامة وهي المعادلة التي لم تُحل بعد.
