France jails its president… while Morocco shields its corrupt officials, promoting them from minister to governor, and from director
to minister.
في باريس تُهزم السلطة أمام القانون.
بين زنزانةٍ تُعيد الاعتبار لفكرة الدولة، ومناصبَ تُكرّس الإفلات من العقاب، يتّضح الفارق بين جمهورياتٍ تبني هيبتها بالعدالة، ودولٍ تخاف من العدالة على هيبتها.
دخل نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي الأسبق، اليوم إلى سجن “لاسانتيه” في باريس، ليبدأ تنفيذ حكمٍ بخمس سنواتٍ سجناً نافذاً بعد إدانته بتلقّي تمويلٍ غير مشروع من نظام القذافي خلال حملته الانتخابية لعام 2007.
سنتان من العقوبة سيقضيهما فعليًا خلف القضبان، بينما تخضع السنوات الثلاث الأخرى للمراقبة الإلكترونية، في سابقةٍ تاريخية تُعيد فرنسا إلى جوهر جمهوريتها: لا أحد فوق القانون.
لم تُجدِ رمزيته السياسية ولا نفوذه الواسع في كبح العدالة الفرنسية، التي قررت أن تُعامله كمواطنٍ عادي، لتُعيد بذلك الاعتبار إلى مبدأ بسيطٍ وعميق: احترام الدولة يبدأ من رأسها لا من ذيلها.
مشهدُ ساركوزي وهو يدخل السجن لم يكن مجرّد واقعةٍ قضائية، بل درسًا في فلسفة السلطة والشرعية.
فحين تخضع الرئاسة للقانون، تكتمل الدولة، وحين يتقدّم القاضي على السياسي، تستقيم فكرة الجمهورية.
تلك هي الرسالة التي بعثتها فرنسا اليوم إلى نفسها وإلى العالم: القانون ليس زينةً للنظام، بل ضمير الدولة.
أما في المغرب، فالمشهد على النقيض تمامًا.
ليس لأن القانون غائب، بل لأن تطبيقه يتوقّف عند حدود النفوذ.
فالذين يُديرون مؤسسات الدولة الكبرى من وزراء وولاة وسفراء ومديرين عامين لا تطالهم المساءلة إلا شكليًا، مهما كانت التقارير صريحة أو الأرقام فاضحة.
يتنقّلون بين المناصب كما تُبدَّل الأزياء في حفلات الدولة: من وزارةٍ إلى ولاية، ومن ولايةٍ إلى سفارة، ومن إخفاقٍ إلى ترقية.
كأنّ الفشل الإداري يُكافأ، وكأنّ المال العام متروكٌ في يد نخبةٍ فوق المحاسبة.
في فرنسا، الرئيس يُدان لأنه تلقّى أموالاً أجنبية لحملته الانتخابية.
في المغرب، تُهدر أموال دافعي الضرائب في مشاريع وصفقات تُدار في الظل، ثم يُمنح أصحابها أوسمة الشرف والترقية.
وهكذا يتحوّل القانون من سلاحٍ ضد الفساد إلى مظلّةٍ لحمايته.
المفارقة الأشدّ إيلامًا أنّ المنظومة لا تكتفي بالإفلات من العقاب، بل تُكيّف القوانين نفسها لتخدم هذا الإفلات.
ففي الوقت الذي ينتظر فيه المغاربة إصلاحًا يُعزّز رقابة المجتمع المدني على المال العام، جاء مشروع القانون رقم 03.23 الذي قدّمه وزير العدل عبد اللطيف وهبي ليُضيّقها.
ذلك المشروع الذي أثار احتجاج الحقوقيين، وعلى رأسهم محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، لأنه سحب من الجمعيات حقّ التقدّم بشكاوى في قضايا الفساد والاختلاس، وقصره على النيابة العامة أو بإذنٍ مسبق من وزارة العدل.
وبهذه الصيغة، كما يقول الغلوسي، “قُبرت فعليًا روح الفصل بين السلطة والمسؤولية، ودُفن سؤال من أين لك هذا؟ في نصوصٍ محروسةٍ بالموافقة السياسية.”
لقد تحوّل الإصلاح من وعدٍ بالمحاسبة إلى غطاءٍ قانونيٍّ لحماية كبار المسؤولين من المتابعة.
إنّ العدالة في المغرب لا تعاني من نقصٍ في القوانين، بل من فائضٍ في الاستثناءات.
تتحرك ضد موظفٍ بسيطٍ أو رئيس جماعةٍ قروي، لكنها تتجمّد أمام من بيده القرار.
وما دامت المحاسبة تتوقف عند عتبة “الرتبة”، سيبقى الفساد جزءًا من هندسة السلطة لا خللًا فيها.
فالدولة التي لا تُحاسب كبارها تفقد هيبتها مهما اشتدّ خطابها ضد الصغار.
فرنسا لم تسجن ساركوزي لأنها تكره رؤساءها، بل لأنها تحبّ القانون.
أما المغرب، فيُعدّل قوانينه كي لا تقترب العدالة من دوائر القرار.
وهكذا يُصبح “الإصلاح” وسيلةً لتجميل المشهد لا لتغييره، و“دولة القانون” شعارًا يُرفع أمام الكاميرات ويُطوى في المكاتب المغلقة.
الفرق بين التجربتين لا يُقاس بالنصوص ولا بالأرقام، بل بالشجاعة.
في فرنسا، القضاء يجرؤ على لمس رأس السلطة.
في المغرب، لا يجرؤ حتى على النظر نحوه.
هناك، القانون يحكم الدولة.
وهنا، الدولة تحكم القانون.
