Grinding Paper or Grinding Meaning? Politics on the Edge of Words
الكلمة في السياسة ليست تفصيلًا لغويًا، بل اختبار ولاءٍ تحت ضوءٍ مباشر.
قد ترفع صاحبها إلى مرتبة الجرأة، أو تُسقطه في فخّ التوضيح، أو تجعل الهاتف يرنّ في المساء.
في المشهد المغربي، لا شيء يمرّ مرور الكرام، خصوصًا حين تخرج الجملة من فم نائبٍ برلمانيٍّ على الهواء، أمام كاميراتٍ تحفظ أكثر مما تُذيع.
عبارة “طحن الورق” التي وردت على لسان أحمد التويزي أثناء مناقشة مشروع قانون المالية 2026 لم تكن، في ظاهرها، سوى تعليقٍ عابر.
لكنها تحوّلت بسرعة إلى حدثٍ سياسي، تجاوز الجلسة إلى الرأي العام، وخلقت طبقاتٍ من التأويل بين من سمعها بعفوية ومن قرأها كاعترافٍ مبطّن.
كلمة واحدة أعادت للخطاب النيابي حرارةً افتقدها طويلاً، ثم عادت لتبرد تحت ظلال البلاغات الرسمية.
البلاغ الذي صدر بعد الجلسة بدا كأنه محاولة لترميم الصدى أكثر مما هو لتوضيح المعنى.
نصٌّ محسوب الإيقاع، مصقول الكلمات، كُتب بعنايةٍ بيروقراطية تُذكّر بأن اللغة في المغرب تُراجع كما تُراجع القوانين المالية.
قال الكثير دون أن يقول شيئًا، وأغلق الباب دون أن يُقفل الملف.
فالسياسي الذي يشرح كلامه بعد كل جلسة، إنما يعترف ضمنيًا بأن الخطاب لم يعُد يملك حصانته الأولى.
ربما لم يكن التويزي يقصد ما فُهم، وربما فُهم أكثر مما قصد.
لكن السؤال الأعمق ليس في النية، بل في الوزن:
هل يدرك السياسي وزن كلمته قبل أن ينطقها؟
هل يعرف أن البثّ المباشر لا يمنح فرصةً ثانية؟
في زمنٍ رقميٍّ لا ينسى، الجملة الواحدة قد تعيش أطول من الحكومة التي قيلت في عهدها.
السياسة في المغرب أصبحت تُدار بالكلمات أكثر مما تُدار بالقرارات.
لغةٌ تُحاصر نفسها بتصريحاتٍ تُنقَّح وبلاغاتٍ تُفسَّر، إلى أن يصير الغموض أسلوبَ حكمٍ ناعم.
فالمشهد لا يحتمل الوضوح الكامل، ولا الغموض التام.
والعبارة حين تقترب من الحقيقة، تُعاد صياغتها لتبدو مؤدّبة بما يكفي للبقاء، ومفتوحة بما يكفي للتأويل.
في النهاية، “طحن الورق” لم تكن مجرد جملةٍ عابرة في نقاشٍ برلماني، بل مرآة صغيرة لخللٍ أكبر في علاقة السياسي بلغته.
عبارةٌ قالت ما لا يُقال، ثم خافت من نفسها حين قيلت.
ولعلها ستبقى في الذاكرة، لا لأنها أثارت الجدل، بل لأنها لامست المعنى الذي تخشاه السياسة دائمًا:
أن الكلمة حين تُقال بصدقٍ، تُصبح أخطر من الصمت.
