لم يكن يوم تقديم سيارة “نيو موتورز” أمام جلالة الملك محمد السادس يوماً عادياً في ذاكرة الصناعة المغربية.
كانت القاعة تلمع بالبريق، والمشروع يُقدَّم على أنه طفرة تاريخية: أول سيارة مغربية مائة في المائة، من الفكرة إلى العجلة.
الكلمة التي نُطقت حينها، “صُنع في المغرب”، لم تكن مجرّد شعار، بل وعداً بسيادةٍ اقتصاديةٍ جديدة، وتحولٍ رمزيٍّ في مسار بلدٍ ظلّ لعقودٍ يصنع الأحلام أكثر مما يصنع السيارات.
في مقدّمة المشهد، ظهر الوزير الشاب مهدي بنسعيد، بصفته المستثمر والمؤسّس والمبشّر بالحلم الصناعي.
هو نفسه الذي يقود وزارة الشباب والثقافة والتواصل، ويجلس في قلب حزب الأصالة والمعاصرة، الحزب الذي يقدّم نفسه كواجهة الحداثة في حكومةٍ تبيع الإنجاز كما تُسوّق الوهم.
حين عُرض النموذج الأول لسيارة “نيو موتورز” أمام جلالة الملك في ربيع 2023، بدا المشهد أقرب إلى لحظة تتويج وطني: مشروع مغربي بتمويل وطني، يوظّف 600 شخص، وينتج 30 ألف سيارة سنوياً، ويغزو أسواق أوروبا وأمريكا.
كل شيء كان محبوكاً بعناية: الكاميرات، التصفيقات، الابتسامات، والعبارة السحرية “صُنع في المغرب”.
لكن، كما يحدث كثيراً في هذا البلد، ما يُقدَّم في الصورة لا يشبه ما يُخزَّن في الواقع.
بعد أقل من عام، بدأت الأسئلة تتطاير: أين المصنع؟ أين السيارات؟ وأين مناصب الشغل التي تحوّلت إلى شعارات؟
الجواب جاء مثل إشارة شبكةٍ ضعيفة: متقطّعاً، متردداً، ومليئاً بالتأويلات.
فقد عادت مجلة TelQuel، التي بشّرت بالمشروع في بداياته، لتطرح السؤال ذاته: هل فعلاً هذه سيارة مغربية 100 % أم تسويقية 100 %؟
تحقيقات Le Desk وHNews كشفت أن السيارة ليست سوى نموذجٍ صيني قديم أُعيد تجميعه، وأن “النسبة المغربية” في “الصنع المغربي” لا تتجاوز طلاء الواجهة وبعض البراغي.
الوحدة الصناعية بعين عودة موجودة فعلاً، لكن بحجمٍ رمزيّ.
الشركة لم تُصدر أي تقريرٍ رسمي عن عدد السيارات المنتَجة أو عدد العمال، فيما بقي رقم “30 ألف سيارة” أسطورة بلاغية تروَّج أكثر مما تُصنع.
أما “600 منصب شغل” فبقي وعداً مؤجَّلاً.
وفي الخلفية، مؤسسات عمومية اقتنت دفعات محدودة من هذه السيارات “الوطنية” بمكوّناتٍ صينيةٍ خالصة، في مشهدٍ يُلخّص كيف تتحوّل الوطنية أحياناً إلى ملصقٍ تجاري.
المفارقة أن المشروع حظي بدعمٍ عموميٍّ سخيٍّ، من صندوق الاستثمار الصناعي إلى الامتيازات الجمركية، في وقتٍ لم يُنتج فيه سوى وعودٍ كهربائيةٍ بلا تيار.
كأنّ الحلم تمّ تمويله من جيوب دافعي الضرائب ليُعرض على شاشة التلفزيون، لا على الطريق.
وهنا يبدأ السؤال الأعمق:
هل أخطأ الوزير، أم تعمّد تسويق الوهم؟
هل ضحك على المغاربة فقط، أم سخر من جلالة الملك الذي استقبل المشروع بثقةٍ ملكيةٍ كاملة؟
كيف يمكن لوزيرٍ في الحكومة أن يكون في الوقت نفسه رجلَ تسويقٍ لمشروعٍ خاصٍّ استفاد من أموال الدولة؟
وأين تقف المساءلة حين يتقاطع النفوذ مع المال، والسياسة مع الصورة؟
الملك حين حضر العرض، كان ينتظر صناعةً مغربيةً تشرّف السيادة، لا مشروعاً صينياً مدهوناً بلون الوطن.
كان ينتظر واقعاً اقتصادياً جديداً، لا روايةً دعائية من تأليف مهندسي الاتصال.
ضحك الوزير أمام العدسات، وضحك الإعلام الرسمي من ورائه، لكن السؤال الذي لم يُطرح هو: من الذي كان يضحك فعلاً؟
النتيجة أن “السيادة الصناعية” تحوّلت إلى شعارٍ على سيارةٍ مستوردة، و“الابتكار الوطني” إلى عملية تجميعٍ صامتةٍ داخل قاعةٍ مكيّفة.
أما الوطن، فبقي ينتظر صناعةً لا تركب على العجلات فقط، بل على الصدق أيضاً.
لا أحد يعرف إن كان بنسعيد ضحك على الملك والمغاربة، أم صدّق هو نفسه أكذوبة “صُنع في المغرب”.
لكن الأكيد أن السيارة التي وُلدت في القصر خرجت إلى الشارع بأبوابٍ صينيةٍ فاخرة، وأن الحلم الوطني تاه في الزحمة بين التسويق والسياسة.
في هذا البلد، بعض المشاريع لا تُصنع لتسير… بل لتُصفّق لها العدسات.
