بقلم: عبد المولى المروري
تحية تقدير للصحفي حميد المهداوي، الذي أقدم على خطوة جسور في زمن صار فيه قول الحقيقة نوعاً من الجنون المحسوب، ومغامرة قد تقود صاحبها إلى المجهول؛ فقد كشف الرجل، عبر تسريب واحد، هول ما يقع داخل مؤسسة يُفترض أن تكون نموذجاً للأخلاق المهنية واحترام القانون، وضماناً لحرية الصحافة، فإذا بها تتحوّل إلى مرآة تعكس جانباً مظلماً من واقعنا المؤسسي.
- اجتماع بلا قانون ولا أخلاق
التسريب لم يكشف عن انزلاق لفظي بسيط، أو لحظة انفعال داخل لجنة الأخلاقيات، بل قدّم صورة صادمة لاجتماع يُفترض أن يتصف بالتحفظ والحياد، وأعلى درجة من الجدية والمسؤولية، ذلك لأنه من الواجب أن يُدار بمنطق شبه قضائي.. غير أن ما ظهر كان نقيض ذلك تماماً: عبث لغوي أخذ اتجاها ساقطا بمضمون منحرف وسخيف، تشفٍّ وتحامل ينم أن مخزون كبير من الحقد والغل، غياب تام للمسؤولية المهنية، مقابل عمل متسم بالعبث والارتجال، جهل شبه تام بالقانون مستأمنون على تطبيقه، وذبح بارد للقانون وللقيم الأخلاقية التي وُجدت اللجنة لحمايتهما.
ما وقع يُظهر انهياراً أخلاقياً شاملاً؛ فبدل أن تكون اللجنة حَكَماً نزيهاً، تحوّلت إلى طرف خصم، وليس كأي خصم، بل خصما حقودا يمارس هذا الحقد بأدنى دركات الصبيانية، وبدل أن تمارس التأديب وفق معايير القانون، مارسته بوحي الأهواء والانطباعات المحملة بمواقف نفسية سابقة، وكانت هذه فرصتها لتصريفها.
- الفساد ليس حادثاً… بل بنية
الأخطر من مضمون التسريب هو سياقه البنيوي، فالمجلس الوطني للصحافة، كما ظهر في التسجيل، ليس استثناءً، وإنما تجلٍّ طبيعي لبنية أوسع من الاختلالات التي تنخر العديد من المؤسسات التي تُوصف بـ “مؤسسات الحكامة والتأديب والضبط”.. لأنها كلها تخرج من معين واحد:
ثقافة مغرقة في السلطوية، ذهنية إدارية بيروقراطية قديمة ومتآكلة، غياب حقيقي للشفافية وانعدام مطلب للنزاهة، ولاءات تفوق المهنية وتعكس امتثالا أعمى لإملاءات خارجية،وهيمنة غير معلنة لجهات تملك القرار وتفرضه وفق مصالحها الخاصة، وإن أضرت بالمهنة وأصحابها.
لذلك، فالتسريب ليس فضيحة مؤسسة بعينها؛ إنما هو نموذج حقيقي ومصغّر لفساد مؤسسي بنيوي يعكس طبيعة اشتغال منظومة الحكم والرقابة في المغرب.
- إهانة المحامين… سقوط جديد يهدد العدالة
ومن أشد فصول التسريب خطورة، تلك العبارات المهينة التي صدرت عن بعض أعضاء اللجنة، وعلى رأسهم رئيس المجلس الوطني نفسه، يونس مجاهد، حين قال عن المحامين: “المحامين نجفف بهم الأرض”.
هذه العبارة ليست مجرد تهجم لفظي؛ بل سقوط أخلاقي ومؤسساتي خطير يمسّ مهنة تُعدّ ركناً من أركان العدالة وشرطاً من شروط المحاكمة العادلة.. فالمحامي – طبقا للقانون – ليس خصماً ولا طرفاً سياسياً؛ إنه جزء من بنيان العدالة، وأحد أسسها وأعمدتها التي لا غنى عنها.. والطعن في كرامته طعن في مؤسسة الدفاع وفي حق المواطن في التقاضي.
فإهانة المحامين والحالة هاته:
خرق للقانون، باعتبارها إهانة لهيئة منظمة بنصوص قانونية خاصة.
تحامل مهني مثبت بالصوت ينسف حياد اللجنة ويُبطل أي قرار تتخذه.
تجسيد لذهنية سلطوية ترى نفسها فوق الضوابط وأعلى من المهن القانونية.
وإضرار أكبر بالثقة العامة التي تُعدّ أساساً لشرعية أي مؤسسة ذات طبيعة تأديبية.
كارثة مثل هذه تستدعي موقفاً واضحاً من الهيئات المهنية للمحامين، ليس فقط دفاعاً عن كرامة مهنة الدفاع، بل حماية لهيبة العدالة وللمجتمع من انحراف خطير يتجاوز حدود الصحافة ليضرب جوهر دولة القانون.
- زلزال داخل البنية الإعلامية
ما قام به المهداوي أحدث رجّة غير مسبوقة، حيث تسبب في ارتباك واضح داخل المجلس، ردود فعل متوترة، محاولات تبرير متسرعة، تهديد بالمتابعة القضائية، وكل ذلك واضح وجلي في البيان (المهزلة) الذي خرج باسم المجلس، والذي حاول من خلاله – عبثا – الهروب إلى الأمام، ولكن الرأي العام المغربي بمن فيهم الأحزاب السياسية والإعلاميين كان لهم رأي آخر، وما يزال المشهد المغرب منفتح على تطورات خطيرة تهم هذاه القضية وقضايا أخرى.
هذه المحاولة (اليائسة) التي أقدم عليها المجلس الوطني من خلال بيانه ذاك ليست جديدة في سياق يعرف منطق “معاقبة من يكشف الفساد بدل معاقبة الفاسدين”، إنها سمة الأنظمة التي تعاني من انغلاق مؤسساتي وتآكل داخلي، حيث يصبح الفضح جريمة، والتستر قيمة، ويُنظر للمُصلح على أنه خطر يجب تطويقه.
- مرحلة ما بعد التسريب: توتر أكبر واحتقان أعمق
المستقبل القريب مرشح لمزيد من التوتر.. فالدولة العميقة من المحتمل أنها ستشدد قبضتها، ومؤسسات التأديب ستضاعف حذرها، وقد تظهر أساليب جديدة للترهيب وإسكات الأصوات الحرة أكثر خطورة وفتكا بعدما انفضح أمرهم.
الخطر اليوم لا يتهدد المهداوي وحده، بل كل من يفكر في كشف العفن المؤسسي الذي يختبئ خلف واجهات “الحكامة”، والأحداث والأيام القادمة سوف تؤكد ذلك لمن ما يزال على إيمان بنزاهة هذه المؤسسات ومصرا إلى إعطاءها ثقة مجانية.
- التحقيق… المشكلة ليست في فتحه بل في نزاهته
يمكن للسلطات أن تفتح تحقيقاً؛ لكن السؤال الجوهري هو هل سيكون شفافاً ومستقلاً ونزيهاً؟
الجواب الواقعي: من الصعب جداً، لأن التحقيق الحقيقي قد يقود إلى كشف شبكة موسعة من التجاوزات، إسقاط رؤوس كبيرة، فتح ملفات سبق أن ظلم فيها أبرياء، أو فضح تدخلات لا يُراد لها أن تظهر.
ولذلك، فالمشكلة ليست في إعلان “فتح التحقيق”، بل في الاستحالة العملية لشفافيته ونزاهته داخل منظومة تحمي نفسها أكثر مما تحمي القانون.
والخلاصة: التسريب الذي كشف عنه المهداوي ليس مجرد حادث؛ إنه شهادة حيّة على فساد بنيوي عميق يضرب مؤسسات الضبط والحكامة، ويكشف جانباً من واقع لا يراه المواطن إلا لماماً، واقع يجعل القانون مشلولاً إلا على الضعفاء، ويجعل الهيئات التي يفترض أن تحمي الأخلاق المهنية أول من يخرقها، ويجعل العدالة رهينة ذهنية سلطوية تزدري المحامين، وتتحامل على الصحافيين، وتحتقر حق المواطنين المرتبين في الدرجة الثانية أو الثالثة، هذه هي الحقيقة.
إنها لحظة مفصلية يجب ألا تمر مرور الكرام.. لا دفاعاً عن المهداوي فقط، بل دفاعاً عن قيمة كبرى اسمها: نُبل الحقيقة وحرمة العدالة وكرامة المهن الحرة.
