بقلم: علي انوزلا
ما كشفته تسريبات مقاطع فيديو لجنة أخلاقيات المهنة بالمجلس الوطني للصحافة ليس مجرد انحراف أفراد أو كلام ساقط يصدر عن أشخاص سقطت أخلاقهم، أو تجاوز مسطري أثناء حفلة “تأديب”، بل نافذة صغيرة تطل على بنية عميقة تفضح لنا كيفية اشتغال السلطة في البلاد.
لا يجب اختزال التسريبات في قصة المهداوي أو في بطاقة مهنية، لا قيمة لها، أو في لجنة تأديب تحتاج إلى من يؤدبها، بل يجب النظر أبعد إلى الجوهر ، إلى طريقة اشتغال البنيات السرية التي تحكم شؤون الدولة، وتقرر مصائر الناس، وتوزع العقاب والرضا وفق منطق الهيمنة والإخضاع.
لقد أظهرت تلك المقاطع ما يشبه “البروفة” لما يجري في غرف أكبر وأعتم، حيث تُصنع القرارات التي تطال الاقتصاد، القضاء، الصفقات، الإعلام، الثقافة، حقوق الناس، وحياتهم اليومية.. الأشخاص الذين ظهروا في التسريبات مجرد كومبارسات، أو دمى، داخل مسرح أوسع، مسرح يُدار بالعقلية نفسها: الإخضاع لمن يقبل الخضوع، والتحطيم الممنهج لكل من يجرؤ على الاعتراض أو الخروج عن الصف.
سلوك أفراد اللجنة ليس شذوذاً عن القاعدة، بل انعكاس دقيق لها، فالغرف التي تُدار بهذا المنطق ليست واحدة، بل عشرات في كل القطاعات، على كل المستويات، ومنذ سنوات طويلة.
وإذا لم نستوعب هذه الحقيقة فسنظل ننتقل من فضيحة إلى أخرى كمن يطارد خيط دخان.
بالأمس كانت فضيحة صفقات الأدوية الشغل الشاغل للرأي العام، واليوم ابتلعتها فضيحة “غرفة الأخلاقيات”، وغداً ستبتلع هذه الفضيحة فضيحة أخرى، ويبقى جوهر المشكلة بلا مساءلة ولا تفكيك.
هكذا يُدار الفساد البنيوي: سلسلة فضائح تُنسي بعضها بعضاً، فيما تبقى البنية التي تنتجها سميكة، سليمة، متماسكة، ومحصّنة.
الفساد هنا ليس عرضاً مسرحيا لنسخر من الكومبارسات الذين ظهروا فيه، إنه نظام عمل كامل ومتكامل يشتغل في “الظل”، وبالتالي لا يجب أن ننشغل عنه بصبّ اللعنات على الأصبع الذي يشير إليه.
لذلك، فإن الإحالات على جورج أورويل وغرفته 101، وعلى كافكا ومحاكماته العبثية، وعلى “اللجنة” لصنع الله إبراهيم، ليست ترفاً ثقافياً ولا لعباً بلاغياً، هذه الأعمال صاغت جوهر ما نراه اليوم: استبدادٌ متوحش في جوهره، جبان في ممارساته، نتنٌ في وسائله، ورثّ في أدواته، لكنه مع ذلك متجذّر لأنه بلا رقابة ولا محاسبة.
التمادي في الصمت عن هذا النمط من الحكم، أو السخرية من مظاهره وسلوكيات موظفيه دون تفكيك آلياته، لا يؤدي إلا إلى تقويته. المطلوب اليوم ليس الشماتة في أشخاص ظهروا في فيديو، ولا المطالبة بفتح تحقيقات لن تفتح وحتى إذا فتحت لا أحد يعلم نتائجها، بل مواجهة هذا النظام الأخطبوطي الذي يتحكم في كل القرارات الحساسة في البلاد، في التعيينات كما في الإعفاءات، يصادر استقلالية المؤسسات، ويخلخل الثقة بين الدولة والمجتمع.
النقاش الحقيقي الذي يجب ألا يُحرَّف هو كيف نعيد بناء فضاء سياسي وإعلامي ومؤسساتي يستجيب للتطلعات الديمقراطية للشعب، فضاء يقوم على الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، لا على الخوف والصمت والتطويع؟
هذه التسريبات فرصة نادرة أخرى لفهم ميكانيزمات اشتغال العلبة السوداء للنظام، وليس للسخرية منها أو الارتجاف أمامها. فرصة لفضح البنية السرية لنظام الحكم في المغرب، ولتحويل الغضب إلى وعي، لا إلى نسيان جديد ينضاف إلى ذاكرة شعب مُتعَبة من كثرة الفضائح مع استمرار الإفلات من الحساب والعقاب..
