اتفقنا أو اختلفنا مع حميد المهداوي، في خرجاته الإعلامية الصاخبة أو تعليقاته المثيرة للجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، يبقى الرجل صحفيًا قبل كل شيء، يمارس حقه في الكلام وينقل ما يراه صوتًا للرأي العام.
حرية التعبير ليست امتيازًا يمنحه الوزير متى شاء، بل حق دستوري مكفول بنصوص واضحة. لكن ما يحدث اليوم يتجاوز كل منطق: وزير العدل نفسه، الضامن المفترض لحرية الكلمة، يتحول إلى طرف مباشر في نزاع قضائي مع صحفي واحد، عبر أكثر من أربع شكايات متتالية.
هنا لم نعد أمام مجرد قضية رأي، بل أمام مشهد سياسي وقانوني مقلق يطرح سؤالًا عن حدود السلطة وأخلاقيات المسؤولية.
الأسئلة التي تتردد اليوم لا يطرحها الصحفيون وحدهم، بل قطاعات واسعة من الرأي العام: لماذا كل هذا الإصرار على ملاحقة صحفي بعينه؟ هل هي تصفية حسابات شخصية بين وزير حساس تجاه النقد وصوت إعلامي مزعج؟ أم أن الهدف أبعد: توجيه رسالة إلى الصحافة المستقلة بأكملها، مفادها أن أي صوت يخرج عن الخط الرسمي سيتعرض لمطرقة الشكايات حتى ينهك أو يصمت؟
الواقع أن هذا الإصرار لا يعبّر عن قوة الدولة ولا عن هيبة الوزير، بل عن هشاشة سياسية وارتباك في التعاطي مع النقد. الدولة الواثقة من نفسها تواجه الكلمة بالكلمة، وتحتكم إلى قانون الصحافة الذي أُحدث لضمان حرية التعبير، لا إلى السلاح الجنائي الذي يفتح أبواب الترهيب.
إن نقل الخلاف مع صحفي إلى معارك قضائية متكررة يفضح أن السلطة لم تستوعب بعد أن الديمقراطية تقوم على التعددية والاختلاف، وأن النقد—even المزعج منه—جزء من مناعة المجتمع السياسي.
ثم إن صورة وزير العدل نفسه تزداد تعقيدًا. الرجل الذي يفترض أن يقود إصلاحًا شاملاً للعدالة، ويعالج أعطاب المحاكم، ويشرف على تنزيل قوانين مصيرية، وجد نفسه يضيّع رصيده السياسي في معارك صغيرة ضد صحفي واحد.
الأغرب أن الوزير، وهو صاحب الشكايات، لا يحضر الجلسات بنفسه ولا يواجه الصحفي الذي يتهمه، بل يترك محامين ينوبون عنه. فكيف لوزير يزج بالقضاء في معركة شخصية أن يغيب عنها جسديًا؟ وكيف يقنع الرأي العام بجدية شكاياته وهو يتوارى خلف توقيعه؟
الأخطر أن هذه المتابعات تأتي في ظرفية دقيقة: المغرب يعيش ضغطًا داخليًا متزايدًا بسبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وضغطًا خارجيًا بفعل تقارير المنظمات الحقوقية الدولية، خصوصًا مع اقتراب استضافة كأس العالم 2030.
فإذا بالحكومة تقدم للعالم صورة سلبية: وزير العدل، بدل أن يظهر كمدافع عن سيادة القانون، يظهر كخصم يلاحق الصحافة الحرة. أي رسالة نرسلها إذن إلى الخارج؟ وأي ثقة نزرعها في الداخل حين يرى المواطن أن وزيرًا ينزل بكل ثقله ليصارع صحفيًا؟
القضية اليوم لم تعد مرتبطة بشخص المهداوي وحده. إنها قضية رمزية. لأن السؤال لم يعد: “هل تجاوز المهداوي في كلامه؟”، بل: “هل يجوز لوزير العدل أن يفتح جبهة شخصية ضد صحفي؟”.
إذا قبلنا بهذا المنطق، فإن كل وزير أو مسؤول غاضب من مقال أو تدوينة يمكنه أن يفتح باب الشكايات بلا نهاية، ليحوّل القضاء إلى أداة ترهيب بدل مؤسسة عدالة. وحينها، نكون قد مسحنا بجرّة قلم كل المكتسبات التي راكمها المغرب في مجال حرية الصحافة.
قد ينجح الوزير في إنهاك المهداوي بجلسات محاكم طويلة ومكلفة، لكنه يخسر في المقابل رصيدًا سياسيًا أثمن: صورة الحكومة التي يقول الدستور إنها مسؤولة عن احترام الحريات.
والتاريخ المغربي مليء بالدروس: كلما ضُيّق على الصحافة، خرجت أقوى. وكلما حاولت السلطة أن تخرس صوتًا، تكاثرت الأصوات. أما الوزراء، مهما كانت سلطتهم، فمصيرهم أن يغادروا.
لكن السؤال الذي سيبقى عالقًا هو: أي إرث سيتركه عبد اللطيف وهبي؟ وزيرًا للعدل يُذكر بإصلاحاته، أم وزيرًا يُذكر بشكاياته ضد الصحافة؟
الخلاصة أن اتفقنا أو اختلفنا مع المهداوي، فإن ما يتعرض له اليوم لا يقبله عقل ولا دستور. العدالة لا تُبنى على منطق الشكايات، بل على منطق الحوار والثقة في الكلمة الحرة.
ومن يملك سلطة القانون لا يملك رفاهية أن يتحوّل إلى خصم شخصي.