أيت عباس لم تخرج صدفة. أحد عشر دواراً اجتمعوا لأن الصبر لم يعد يحتمل. مدرسة إعدادية تقي أبناءهم من الهدر المدرسي، طبيبة تعيد للمستوصف نبضه، جرافة تنقّي وادياً يهدد أرواحهم كل شتاء.
هذه ليست مطالب فوق العادة، بل أبسط ما يضمنه الدستور. ومع ذلك، تُعامل كما لو كانت كماليات، يُترك المواطن ليطلبها في مسيرات، وكأنها مِنّة لا حق.
في المقابل، لا يجد الإنفاق الرسمي حرجاً في تبديد الملايير على تفاصيل استعراضية. مؤثرون يُستقدَمون لتزيين افتتاح ملعب محمد الخامس بالرباط، ملاعب تُلمَّع استعداداً للمونديال، أرقام فلكية تُصرف لتلميع الحجر بينما البشر ينتظرون بديهيات الحياة.
هنا يظهر مايسترو الميزانية، الذي يعزف ألحانه على وتر مقلوب: يرفع الإيقاع حين يتعلق الأمر بالصورة، ويخفضه إلى الصمت حين يكون الموضوع هو المواطن.
الاحتياجات تُقدَّم كأنها رفاهية. مدرسة للفتيات في الجبال تُعتبر عبئاً على الحساب، بينما ملعب في العاصمة استثمار في “الواجهة”.
طبيبة في مستوصف تُعتبر كلفة زائدة، بينما استقدام مؤثرين بند عادي في الفاتورة العمومية. جرافة لإنقاذ الأرواح مؤجلة، بينما صفقات الملاعب عاجلة.
هكذا تتحوّل الأولويات إلى معادلة بالمقلوب، تُدار فيها الخزينة كأنها صندوق خاص، لا كميزانية وطنية.
النقد هنا لا يتعلق بالموارد وحدها، بل بمنطق تدبيرها. لم يعد السؤال: هل لدينا الإمكانيات؟ بل: من يقرر وجهتها؟ من يحاسب مايسترو الميزانية وهو يعيد كتابة النوتة الوطنية حسب أهواء اللحظة السياسية؟ لماذا تصبح احتياجات المواطن ملفاً اجتماعياً ثانوياً، بينما تتحول مظاهر الترف إلى أوراش استراتيجية؟
أيت عباس ليست استثناءً. هي مجرد مرآة تعكس مغرباً بسرعتين: سرعة تُقاس بعدسات الكاميرات وأضواء الملاعب، وسرعة أخرى تُقاس بخطوات أطفال يقطعون الجبال نحو مدرسة بعيدة، وبأنين مرضى يفتشون عن طبيبة غائبة.
بين هذه وتلك، يظل العزف مستمراً، لكن اللحن نشاز، والصوت الأعلى ليس صوت الشعب، بل صدى صفقات تُكتب بالمليارات.
وحين تُعامَل احتياجات الشعب كترف، فالمستقبل نفسه يُدار كترف قابل للتأجيل.