حين تخرج المندوبية السامية للتخطيط بأرقام رسمية، لا يبقى للخطاب السياسي مجال واسع للمناورة. فالمذكرة الأخيرة حول الفقر والتفاوتات الاجتماعية وضعت النقاط على الحروف: عقدان من البرامج والمخططات والشعارات لم تمنع المغرب من العودة إلى نفس مستويات التفاوتات التي عاشها مطلع الألفية.
بمعنى آخر، ما بُني في عشرين سنة محته ثلاث أزمات متعاقبة: جائحة كوفيد، تضخم الأسعار، وجفاف متكرر.
الأرقام لا ترحم: مؤشر “جيني”، الذي يقيس توزيع مستوى المعيشة، ارتفع من 38,5% سنة 2019 إلى 40,5% سنة 2022، وهو نفس المستوى تقريباً الذي كان سنة 2001.
نصف المجتمع الأكثر غنىً استحوذ على 76,1% من الإنفاق الوطني، بينما 20% من المغاربة الأفقر لم يتجاوز نصيبهم 6,7%. الفارق بين الطرفين اتسع ليصل إلى 7,1 مرات. هل يحتاج المشهد إلى تعليق؟
الأخطر أن التفاوتات لم تعد في الكماليات أو مظاهر الرفاهية، بل دخلت إلى صحن المواطن. فقد قفز مؤشر تركيز الإنفاق الغذائي من 24,2% إلى 31,7% في ثلاث سنوات فقط، ما يعني أن الفقراء أصبحوا يقتطعون من لقمة عيشهم بينما لم يتأثر الأغنياء إلا هامشياً. أي دولة اجتماعية هذه التي ينهار فيها أساس الغذاء؟
المندوبية بيّنت أن مسار التفاوتات عرف ثلاث محطات: بين 2001 و2014 كان هناك انخفاض نسبي، ثم تحسن أوضح بين 2014 و2019، قبل أن تنسف الأزمات كل شيء ما بين 2019 و2022.
هنا تبرز أسئلة محرجة: أين ذهبت ملايير المبادرة الوطنية للتنمية البشرية منذ 2005؟ ما جدوى المخططات الزراعية الكبرى إذا كان الجفاف يطيح بالفقراء أكثر مما يحميهم؟ أين أثر الوعود حول الحماية الاجتماعية إذا كانت المؤشرات تكشف انهياراً سريعاً؟
الواقع أن المغرب يعيش نموذجاً تنموياً بسرعتين: مشاريع كبرى في المركز تُلمّع الصورة، ومناطق قروية وهامشية تغرق مع أول أزمة.
الأرقام تقول إن التفاوتات تعمقت أكثر في القرى، رغم كل الوعود بفك العزلة وتوجيه الاستثمارات. فهل نحن أمام خلل في الرؤية أم أمام سياسة مقصودة تجعل الفوارق قاعدة لا استثناء؟
المندوبية لم تذكر المسؤوليات، بل اكتفت بلغة الإحصاء. لكن خلف هذه البرودة الرقمية يختفي سؤال سياسي ثقيل: من يحاسب من؟ من يجرؤ أن يعترف أن 20 سنة من البرامج الاجتماعية لم تمنعنا من العودة إلى مربع 2001؟ وكيف يمكن لحكومة ترفع شعار “الدولة الاجتماعية” أن تواجه تقارير رسمية تقول إن العدالة الاجتماعية تبخرت؟
إنها لحظة حقيقة. الأرقام الصادرة ليست صرخة معارضة ولا مقالا رأياً، بل خلاصة مؤسسة رسمية. وما تكشفه ببساطة هو أن الفقر يتجدد والتفاوتات تتمدد، وأن السياسات التي أنفقت الملايير صنعت وهماً سرعان ما انهار مع أول اختبار. والنتيجة، بكل وضوح: التفاوتات رجعت كما كانت… والبرامج لم تكن سوى وهم مؤقت.