إذا صحت المعطيات التي يجري تداولها، فإننا لا نكون أمام مجرد خروقات إدارية عابرة في قطاع الحراسة، بل أمام بنية كاملة تحوّلت إلى شبكة تستنزف المال العام وتستغل البشر بطرق لا تختلف كثيراً عن منطق “المافيا”.
فالمؤشرات الراهنة تكشف عن تأسيس شركات حراسة حديثة، سرعان ما حصلت على صفقات بملايين الدراهم، في قطاعات حساسة كالصحّة والتعليم، بفضل شبكة علاقات ممتدة داخل دوائر القرار.
كشفت مصادر إعلامية أن هذه الشركات، التي لم تكن معروفة في السوق من قبل، نجحت في ظرف قياسي في حجز موطئ قدم داخل صفقات ضخمة، لتتحول فجأة من مقاولات صغيرة إلى “فاعلين كبار” في مجال الحراسة.
هذا التسارع المثير للجدل يعكس وجود رعاية سياسية أو على الأقل غطاء نافذ سمح لها باختراق قطاعات استراتيجية.
الأخطر أن قطاع الصحة، الذي يعيش على وقع انهيار الخدمات واحتجاجات متكررة، صار مسرحاً لصفقات بالمليارات، في وقت تعجز فيه المستشفيات عن توفير الأدوية والتجهيزات الأساسية.
أما التعليم، فلم يسلم بدوره من محاولات التمدد، حيث تشير تسريبات متداولة إلى مساعٍ لفرض هذه الشركات على المؤسسات التعليمية عبر قنوات غير شفافة.
وفي ظل هذه الدينامية المشبوهة، يبقى أعوان الحراسة هم الحلقة الأضعف. آلاف العاملين يشتغلون يومياً لأكثر من 12 ساعة، بأجور زهيدة لا تكفي لسدّ الرمق، ومن دون أي ضمانات اجتماعية أو حقوق مهنية.
هؤلاء الذين يوفّرون الأمن في المستشفيات والمدارس والمقرات العمومية، يعيشون مفارقة قاسية: يحمون المؤسسات، لكن لا أحد يحميهم من جشع الشركات واستغلال الوسطاء.
إن ما يجري لا يمكن قراءته كـ “سوء تدبير” أو “اختلالات عادية”. نحن أمام زواج مشبوه بين المال والسياسة، بين السلطة والصفقات.
فحين يتحول قطاع اجتماعي إلى بقرة حلوب، تُحلب يومياً لصالح المقربين، فإننا نكون أمام فضيحة حقيقية تضرب في العمق مصداقية الدولة ومفهوم العدالة الاجتماعية.
المعطيات المتداولة حول لوائح المستفيدين من عقود الحراسة تكشف عن أسماء وشبكات معروفة بقربها من دوائر القرار، ما يجعل الحاجة إلى مساءلة عاجلة وفتح تحقيق شفاف أمراً ملحاً. فالمحاسبة هنا ليست مطلباً نقابياً أو حزبياً، بل ضرورة وطنية لإنقاذ قطاع استراتيجي من براثن الفوضى والنهب.
ما يجري ليس مجرد استغلال. إنه جريمة اجتماعية واقتصادية وسياسية متكاملة الأركان، جريمة تُحوّل عرق ودماء الشغيلة إلى غنائم بين الأصدقاء والمقربين، جريمة تُبرم فيها العقود على الورق بينما يعيش العمال واقعاً من البؤس والإهانة.
إننا أمام مشهد يستدعي أكثر من وقفات احتجاجية أو بيانات تنديد. نحن بحاجة إلى يقظة مجتمعية حقيقية، إلى ثورة شعبية ضد الاستغلال الممنهج، وإلى مساءلة شجاعة تعيد الاعتبار للمال العام وكرامة الإنسان. فالتاريخ لا يرحم، والشعوب لا تنسى من نهبوا عرقها وحوّلوا معاناتها إلى صفقات مربحة.