لم يكن قرار وزارة الصحة بوقف الإعانات الاستثمارية الموجهة إلى المصحات الخاصة خطوة تقنية عابرة، بل هو اعتراف متأخر بأن قطاعاً يفترض فيه أن يكون شريكاً في حماية الصحة العامة تحوّل، بفضل المال العمومي، إلى آلة ربحية مغلقة.
قرار يكشف ما كان الجميع يتهامس به: خزينة الدولة كانت تموّل مصحات خاصة، في الوقت الذي يُجبر فيه المواطن البسيط على تقديم شيك ضمان قبل أن يسمح له بالدخول إلى غرفة العلاج، ليخرج في النهاية مثقلاً بفواتير صادمة.
لسنوات طويلة، جرى ضخ ملايين الدراهم من المال العام تحت عنوان “تشجيع الاستثمار الصحي”.
لكن ما النتيجة؟ هل انخفضت أسعار العلاج؟ هل تحسنت شروط الاستقبال؟ هل أصبح الولوج إلى الخدمات الطبية أكثر عدلاً؟ الجواب يأتي من تجربة كل مواطن مرّ بباب مصحة خاصة: لا علاج بلا شيك، ولا خروج بلا فاتورة تعصف بالقدرة الشرائية.
بهذا المنطق، تحوّلت الإعانات إلى شكل مقنَّع من الريع: الدولة تدفع، المصحات تربح، والمريض يُستنزف.
الأخطر أن هذه الدورة المالية تمت في صمت، بلا محاسبة ولا لوائح معلنة ولا تقييم شفاف. كأن الأمر يتعلق بأسرار عسكرية، وليس بأموال دافعي الضرائب.
السؤال الجوهري اليوم: من هم المستفيدون الحقيقيون من هذه الإعانات؟ هل هي شبكة ضيقة من المستثمرين الذين جمعوا بين النفوذ والمال؟ ولماذا لم تنشر وزارة الصحة أبداً لوائح المصحات التي تلقت الدعم، والأرقام الدقيقة للمبالغ التي صرفت؟ في دولة يُفترض أن الدستور فيها يربط المسؤولية بالمحاسبة، فإن حجب هذه المعطيات يرقى إلى فضيحة سياسية.
قرار وقف الدعم يظل خطوة ناقصة إن لم تُفتح ملفات الماضي. المطلوب اليوم ليس فقط إيقاف نزيف المال العام، بل أيضاً كشف الحساب: كم صرفت الدولة؟ ما أثر تلك الأموال؟ لماذا لم تُترجم إلى تخفيف العبء عن المرضى؟ ومن سمح بتحويل شعار “تشجيع الاستثمار الصحي” إلى صك غطاء لممارسات تجارية جشعة؟
الأدهى أن هذا الريع الصحي لم يكن معزولاً، بل جزءاً من منظومة أوسع تحوّل فيها المال العمومي إلى أداة لإعادة إنتاج امتيازات خاصة، بدل أن يكون رافعة لتحقيق العدالة الاجتماعية.
ما وقع في الصحة يشبه ما يحدث في قطاعات أخرى: دعمٌ سخيّ من الدولة، أرباحٌ متزايدة للمستفيدين، وانسدادٌ متواصل في وجه الفئات الضعيفة.
إن وقف الإعانات خطوة إيجابية لكنها غير كافية الشفافية الكاملة تقتضي نشر الأسماء والأرقام، ومساءلة من استفادوا من المال العام دون أن يلتزموا برد الجميل للمجتمع.
فالمغاربة لا يريدون خطابات تقنية ولا بلاغات إدارية، بل كشفاً صريحاً للحقيقة: من حوّل العلاج إلى صفقة؟ ومن سمح بأن تتحول المصحات الخاصة إلى خزائن سرية للريع الصحي؟
في النهاية، ليست القضية مجرد دعم مالي، بل سؤال سياسي وأخلاقي: هل يظل الحق في العلاج رهينة دفتر الشيكات؟ أم أن الدولة ستملك الشجاعة لتصحيح مسار سنوات من العبث الصحي، وإعادة الاعتبار لفكرة أن الصحة خدمة عمومية قبل أن تكون مشروعاً تجارياً؟
