لم تَعُد كرة القدم في المغرب مجرّد رياضة، بل أصبحت سلطةً ناعمة تُدار من الأعلى وتُعبَّأ من الأسفل.
بين رجلٍ يُمسك بالمؤسسات ورجلٍ يُمسك بالمشاعر، وُلد شكلٌ جديد من الهيمنة، هيمنةٍ تمزج بين الغرور الشخصي والحماية المؤسسية، حتى صار المنتخب الوطني، الذي يُفترض أنه مرآة الوطن، يُدار اليوم كملكيةٍ رمزيةٍ بين رجلين: فوزي لقجع، الذي يُقرّر من وراء المكاتب، ووليد الركراكي، الذي يُنفّذ من على العشب.
بين رئيسٍ يملك القرار ومدربٍ يملك الصورة، ضاع المعنى، وتحوّل المنتخب إلى مسرحٍ للسلطة أكثر منه ساحةً للروح الرياضية.
من يراقب وليد الركراكي في مؤتمراته الأخيرة، يشعر أننا أمام نسخة أخرى لا تشبه الرجل الذي بكاه المغاربة في الدوحة.
ذاك المدرب الذي كان يتحدث بصدق، ويضحك ببساطة، صار اليوم يتحدث من برجٍ عالٍ، يرى في الصحافة خصمًا، وفي السؤال تهديدًا، وفي النقد “قلة احترام”.
ليس عيبًا أن يغضب المدرب، لكن العيب أن يخلط بين هيبة القيادة وغرور النجم.
كرة القدم لا تُدار بالصوت المرتفع، ولا تُربح بالذاكرة وحدها.
من الدوحة إلى الرباط تغيّر الخطاب أكثر مما تغيّر الأداء، وتحول المدرب الذي كان قريبًا من الناس إلى رجلٍ يتصرّف وكأن المنتخب امتدادٌ لاسمه، وكأن كل من ينتقده ينتقد الوطن.
فوزي لقجع لم يُخفِ يومًا أنه يرى في الركراكي واجهةً مثالية لمشروعه الكروي.
منذ نصف نهائي كأس العالم، صار وليد جزءًا من “العلامة الرسمية للجامعة”، رمزًا للنجاح، وصكًّا جاهزًا لتسويق فكرة “المغرب الكروي الجديد”.
لكن ما لم ينتبه له لقجع هو أن الحماية الزائدة تُفسد التوازن، وأن المدرب الذي يشعر بأنه محصّن من الأعلى يفقد تدريجيًا حسّ المساءلة من الأسفل.
اليوم، يردّ الركراكي على الأسئلة كما لو أنه فوق النقد، وكأن احترام الصحافة ليس جزءًا من احترام المنصب، وكأن الجامعة خُلقت لتصفّق له لا لتُحاسبه.
الغرور هنا لم يولد في لحظة، بل نما في ظلّ صمتٍ مؤسساتي يساوي بين الانضباط والخضوع، وبين الولاء والنتيجة.
الصحافيون الذين تسخر منهم اليوم هم أنفسهم الذين نقلوا دموعك في قطر إلى كل بيت مغربي.
هم من صنعوا حولك الصورة الجميلة، لكنهم اليوم يذكّرونك بأن البطولة لا تكتمل بدون التواضع.
أن تُهاجم الصحافي لأنه طرح سؤالاً فذلك ليس شجاعة… بل ضعفٌ في الذكاء العاطفي.
وأن تعتبر النقد “هجوماً”، فذلك خوفٌ من الحقيقة لا دفاعٌ عن الوطن.
المنتخب لا يُبنى بالكتمان، بل بالوضوح، ولا يمكن لمدربٍ أن يطلب الدعم من الشعب وهو يستخفّ بمن ينقل صوت الشعب.
في عالم الرياضة، من لا يحتمل السؤال لا يحتمل الضغط، ومن يخاف الكلمة يخسر المباراة قبل أن تبدأ.
المشكل لم يعد في المدرب وحده، بل في الجامعة التي تركت الغرور ينمو في صمت.
منذ أن صار الركراكي “ابن الدار المحميّ”، لم نعد نسمع موقفًا حازمًا يضع حدًا للتوتر المتزايد بينه وبين الإعلام.
وكأن لقجع يعتقد أن الصمت هو الحل، بينما الصمت في مثل هذه الحالات ليس إلا موافقةً ضمنية على الخطأ.
فوزي لقجع، الذي نجح في بناء منظومة قوية، يخاطر اليوم بتحويلها إلى منظومة مغلقة تُدار بعقل السلطة لا بعقل الرياضة.
ومن أخطر ما قد يحدث لكرة القدم المغربية أن يتحوّل المنتخب إلى “ملكية معنوية” يتقاسمها رئيس الجامعة ومدربه المفضّل، فيغيب النقد، وتختنق الحرية، وتُختزل اللعبة في شخصين.
يا وليد، احترام الكلمة لا يقلّ أهمية عن احترام الشعار على القميص.
المغاربة الذين أحبّوك لا يكرهونك اليوم، لكنهم يتألمون لأنك لم تعد تشبه الصورة التي رسموها لك.
الأبطال الحقيقيون لا يخسرون بالنتائج، بل حين يفقدون التواضع.
ويا فوزي، ذكّر نفسك ومن حولك أن المنتخب لا هو ملكك، ولا ملك وليد الركراكي، ولا ملك أي مسؤولٍ مهما علا شأنه.
المنتخب ملك المغاربة، كل المغاربة.
من الذين يشترون القميص بدموع الفخر، إلى الذين يشاهدون المباراة من مقهى شعبي ويؤمنون أن الهدف في مرمى الخصم هدف في قلب الوطن.
حين تُهاجم الكلمة، تخسر الفكرة.
وحين تُهان الصحافة، تُهان الذاكرة.
وليد الركراكي مدربٌ موهوب، نعم، لكن الموهبة وحدها لا تصنع الكبار.
الكبار هم الذين يربحون المعركة داخل الملعب، ثم يربحون احترام الناس خارجه.
فاحذر يا وليد… من أن يُذكرك التاريخ لا كصانع إنجاز،
بل كمدربٍ نسي أن المنتخب ليس ملك أحد… بل ملك وطنٍ بأكمله.
