لم يكن الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية حدثًا بروتوكوليًا يُعلن انطلاق الموسم السياسي كما جرت العادة، بل لحظة محاسبة رمزية وضعت الحكومة أمام مرآةٍ لا تعرف المجاملة.
جاء الخطاب مشحونًا بدقة العبارات وصرامة الدلالات، كوثيقةٍ سياسية تؤشر لتحوّلٍ في منطق التسيير أكثر مما تُبشّر بمواسم جديدة من الوعود.
لقد كان امتحانًا شفهيًا للوزراء قبل الامتحان الشعبي المنتظر، في زمنٍ ارتفع فيه صوت جيلٍ جديدٍ لا ينتظر البلاغات ولا يُؤمن بالخطابات، بل يصنع رأيه عبر “ديسكورد” و”تيك توك”، ويكتب بلغته الخاصة: مزيج من الغضب والوعي، ومن الوطنية والسخرية الذكية.
جيل Z المغربي لم يولد من فراغ، بل هو نتاج عقدين من الإصلاحات المعلّقة والوعود غير المكتملة.
جيل رأى الملاعب تُشيَّد والمدارس تُغلق، ورأى المهرجانات تُنفق عليها الملايير بينما المستشفيات تُنقذ الأرواح بالصدفة.
وحين تكلّم، لم يتحدث بلغة المعارضة ولا بلغة الأحزاب، بل بلغة الحقيقة المجردة التي لا تعرف الاصطفاف.
إنه الجيل الذي جرّد الدولة من تبريراتها، وأجبرها على الإصغاء من خارج قاعات البرلمان ومنصات الإعلام الرسمي.
لكن السؤال الأعمق الذي يفرض نفسه اليوم: هل فهم الوزراء والبرلمانيون فعلاً ما قاله جلالة الملك؟
أم اكتفوا بحرارة التصفيق عند نهاية الخطاب كما جرت العادة، وكأن الرسالة لم تكن موجهة إليهم بل إلى غيرهم؟
فالملك حين تحدث عن “الجدّية والمسؤولية” و”العمل الملموس”، لم يكن ينتقي كلماته مجاملة، بل يوجّه إنذارًا واضحًا: زمن التبرير انتهى، وزمن الأثر بدأ.
لقد وضع جلالته المعيار الجديد للشرعية السياسية في المغرب: الإنجاز الواقعي لا الخطاب المتكرر.
غير أن السؤال الذي يشغل الرأي العام اليوم هو ما إذا كانت الحكومة قادرة حقًا على التحوّل من إدارة الصورة إلى إدارة الفعل، ومن التسويق إلى التنفيذ، ومن الوعود إلى النتائج.
قبل الخطاب، كانت الوجوه الحكومية تتسابق نحو الأضواء، في مشهدٍ أقرب إلى حملةٍ ترويجية جماعية تُسرد فيها الأرقام والمشاريع كأنها إعلاناتٌ تجارية.
لكن بعد الخطاب، تغيّر المزاج العام، الناس لم تعد تبحث عن منجزاتٍ مصوّرة، بل عن أثرٍ ملموسٍ في حياتها اليومية.
فالتلفزيون الرسمي، الذي تحوّل منذ سنوات إلى منصةٍ للمديح، بات اليوم مطالبًا بأن يكون مرآةً للمساءلة.
والصورة التي لا تواجه السؤال، تفقد معناها مهما كانت إضاءتها قوية.
فالإعلام العمومي لم يعُد وسيلة شرحٍ بقدر ما أصبح اختبارًا حقيقيًا لصدقية الفعل السياسي، ومرآةً تكشف المسافة بين الوعود والواقع.
أما جيل Z، فلم يعُد مجرد جمهورٍ غاضب يعبّر في فضاءات الإنترنت، بل صار قوة ضغطٍ رقمية تُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع.
إنه جيل لا يطلب المستحيل، بل يطالب بأن تُترجم الوعود إلى واقعٍ ملموس: تعليم فعّال، صحة كريمة، عمل بكرامة.
وهو جيل، رغم نقده، لا يرفض الدولة ولا رموزها، بل يسائل أداء الحكومة باسم تلك الدولة نفسها.
وطنيٌّ بعمق، غاضب بذكاء، ومؤمنٌ بأن الإصلاح لا يأتي من الشارع وحده، بل من داخل المؤسسات التي يجب أن تُفتح لا أن تُغلق أمامه.
لقد أدرك أن الوطنية لا تُقاس بالتصفيق، بل بالمحاسبة، وأن الصمت لم يعد حيادًا، بل تواطؤًا مع العجز.
ما بعد الخطاب الملكي هو لحظة الحقيقة ،لا مجال بعدها للاختباء وراء الأزمات العالمية أو التبريرات المناخية أو تقارير “الإنجازات”.
لقد وضع الملك العنوان الكبير: “الجدّية والمسؤولية”، أما التفاصيل فعلى الحكومة أن تكتبها بالفعل لا بالبلاغات.
فإما أن تُصغي للجيل الجديد وتعيد الثقة إلى السياسة، أو تُصرّ على الصمم وتنتظر لحظة المساءلة الكبرى، حين يتحوّل الصمت الشعبي إلى لغةٍ أخرى لا تحتاج إلى وسائط ولا بيانات.
لقد تغيّر زمن الصمت، ومن لم يسمع صوت جيل Z اليوم، سيسمع صداه غدًا في صناديق السياسة… .
