Cities of Competence or the Competence of Cities? When the Royal Project Turns into a Forbidden Zone for Debate
ليست التنمية في جوهرها بناءَ البنايات، بل بناءَ الثقة في منطق الدولة. وفي التجربة المغربية، كلّما اقترب المشروع من القصر، ابتعد عن النقاش، كأنّ المسافة بين السلطة والفكرة تُقاس بمدى الصمت لا بمدى الإنجاز.
مدن المهن والكفاءات، التي أبصرت النور سنة 2019 كأحد أوراش التكوين الحديثة، تمثّل اليوم أكثر من مجرد مشروعٍ تدريبي؛ إنها مرآةٌ دقيقة لجدلٍ خفيٍّ بين رمزية القرار الملكي وبطء البيروقراطية الحكومية.
تصريحات وزير الإدماج الاقتصادي والتشغيل، يونس السكوري، لم تُبدّد هذا الجدل، بل عمّقته. فقد شدّد على أنّ المشروع «ملكيٌّ جديٌّ لا يجب أن يخضع للجدال أو التجاذبات السياسية» جملةٌ قصيرة لكنها كاشفة، تختصر فلسفة إدارةٍ ترى في النقاش تهديدًا، وفي الصمت ضمانةً للاستمرارية.
لغة الوزير جمعت بين الثقة والتبرير، بين الأرقام المطمئنة والواقع القلق.
فهو يؤكد أنّ وتيرة الأشغال بلغت %70 وأنّ كلفة المشروع ارتفعت بمليار درهم إضافي نتيجة التضخم، لكنه في الوقت ذاته يقرّ بأنّ الداخليات لا تستوعب سوى %16 من المتدرّبين، أي نحو 5500 سرير فقط. مفارقةٌ تختصر المسافة بين ما يُقال وما يُنجز.
كشفت مصادر إعلامية أنّ الحكومة تروّج لهذه المدن باعتبارها «قاطرة التحوّل المهني»، غير أنّ الأسئلة التي تلاحقها تزداد كثافةً كلّما ارتفع منسوب الدفاع الرسمي عنها.
ما الجدوى من مدينةٍ متقنة الهندسة بلا نسيجٍ اقتصاديٍّ قادرٍ على استقبال خرّيجيها؟ وكيف تتحوّل «الجدّية الملكية» إلى جدارٍ رمزيٍّ يمنع المساءلة عن كلفةٍ تجاوزت التقديرات الأولى؟
حديث السكوري عن الشفافية بدَا أقرب إلى طقسٍ إداريٍّ منه إلى محاسبةٍ عمومية. فعباراتٌ من قبيل «دفاتر تحمّلات دقيقة» و«مساطر معمول بها» تتردّد كلّما تعثّر مشروعٌ أو انسحبت شركة. والوزير نفسه أقرّ بأنّ إحدى الشركات فشلت في الاستمرار «كما حدث مع عشرة آلاف مقاولةٍ في قطاع البناء»، في إشارةٍ مبطّنة إلى أزمةٍ بنيويةٍ لا تخص المشروع وحده، بل طريقة تدبير المال العام في حد ذاتها.
أما تراجع القطاع غير المهيكل إلى %10.9 من الناتج الداخلي، كما أعلن الوزير، فليس سوى رقمٍ متفائلٍ ينتظر برهانًا ميدانيًا. فبين الباعة المتجولين الذين «يشتغلون بدافع الضرورة» وبين الوعود بإدماجهم في تسع عشرة مهنةٍ جديدة، تتّسع هوّةُ السياسات المتقطّعة، فتتحوّل “الإدماجات” إلى أرقامٍ بلا أثر، و“الإصلاحات” إلى شعاراتٍ بلا صدى.
في المحصلة، لا يعاني المشروع من نقصٍ في التمويل بقدر ما يُصاب بتخمةٍ في الخطاب. فكلّما تأخّر الإنجاز، ازدادت الأوصاف المضيئة: “الرؤية الملكية”، “المسؤولية الحكومية”، “الشفافية الكاملة”. إنها المفارقة المغربية في أكثر صيغها تهذيبًا: مشاريع تُبنى بالحماس الملكي، وتُدار بالحذر السياسي.
وحين تُصبح الجدية عنوانًا للصمت، يتحوّل التكوين إلى طقسٍ رمزي أكثر منه صناعةً للكفاءة.
هكذا تبدو مدن المهن والكفاءات اليوم: حجرٌ مكتمل، وفكرٌ مؤجَّل.
وفي النهاية، ليست المشكلة في الحجر الذي بُني، بل في الفكر الذي لم يُبنَ بعد.
