بقلم: عبد الفتاح الحيداوي
أولاً: مقدمة
منذ سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924، دخل العالم الإسلامي طوراً جديداً من التحولات البُنيوية العميقة، تمثّل في انهيار المرجعية السياسية الجامعة، وتفكك المجال الإسلامي إلى دول قومية تخضع لمنطق السيادة الحديثة وموازين القوى الدولية. وقد أدى هذا السقوط إلى فراغ مشرعي ومؤسسي غير مسبوق؛ إذ غابت السلطة التي كانت تجمع بين البعد الديني والسياسي، ففقد المسلمون الإطار الذي كان بمنهجه وحدة رمزية وتنظيمية في إدارة شؤونهم العامة.
في هذا السياق المضطرب، برزت عشرات الحركات الإسلامية التي سعت إلى ملء هذا الفراغ، محاولةً استعادة النموذج المفقود أو إعادة بنائه في صيغة جديدة. غير أن معظم هذه الحركات لم تنشأ في بيئة استقرار، بل كانت وليدة أزمات سياسية أو اجتماعية أو فكرية؛ فالإخوان المسلمون ظهروا في ظل الاحتلال البريطاني، وحزب التحرير تأسس على أنقاض ضياع فلسطين، والسلفية الجهادية ولدت من رحم الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، وحركات المقاومة الإسلامية برزت في مواجهة الكيان الصهيوني.
إن تحليل تجربة هذه الحركات من زاوية “الأزمة” يفتح أمامنا أفقاً أعمق لفهم بنيتها الفكرية، إذ يتبين أن أغلبها تأسس استجابةً لحَدَث محدد لا في إطار مشروع حضاري مكتمل. لذلك، انغمس خطابها في كثير من الأحيان في ردة الفعل، لا بفعل الوعي المؤسس على رؤية استراتيجية شاملة. كما انعكس هذا على مكون “الأزماني” في بنيتها التنظيمية وسلوكها السياسي، فغلب عليها منطق التعبئة والمواجهة بدل منطق البناء والمؤسسات.
وإذا كانت هذه الحركات قد أدت دوراً تعبوياً في لحظات الانكسار والاحتلال والاستبداد، فإن محدودية رؤيتها النظرية جعلت قدرتها على التحول من منطق “المقاومة” إلى منطق “النهضة” ضعيفة. فالتحدي الأكبر الذي واجهها – ولا يزال – هو الانتقال من الوعي الاحتجاجي إلى الوعي البنائي، ومن الشعارات التعبوية إلى هندسة مشروع حضاري يستوعب تعقيدات الواقع الحديث، ويوازن بين مقاصد الدين ومقتضيات الدولة المعاصرة.
ومن هنا يصبح فهم الحركات الإسلامية في ضوء “أزماتها البنيوية” شرطاً أساسياً لتحليل مسارها التاريخي وتحولاتها الفكرية والتنظيمية، إذ لا يمكن تقييم مآلاتها دون إدراك السياق الوجودي الذي وُلدت فيه – سياق الانكسار والبحث عن المعنى، ومحاولة استعادة الذات الجماعية للأمة بعد قرنٍ من الوصاية والتجزئة.
ثانياً: علاقة النشوء بالأزمة التاريخية
يمكن القول إن كل حركة إسلامية كبرى وُلدت في رحم أزمة كبرى هزّت الوعي الجمعي للأمة:
1- حركة الإخوان المسلمين (1928م): الولادة من رحم الأزمة
نشأت حركة الإخوان المسلمين سنة 1928م على يد الإمام حسن البنا في مصر، في ظرف تاريخي بالغ الحساسية أعقب سقوط الخلافة العثمانية 1924م، وهو الحدث الذي مثّل صدمة كبرى للعالم الإسلامي، إذ انهار معه كيان رمزي لوحدة الأمة الإسلامية. وجد المسلمون أنفسهم أمام فراغ سياسي وروحي، وانقسام حاد بين تيارات التغريب التي سعت لعلمنة الحياة العامة، وتيارات المحافظة التي تعلّقت إلى الدين الفردي. في هذا السياق، جاء مشروع البنا كحاولة لإعادة الفكرة الإسلامية إلى المجال العام، من خلال تنظيم جامع يعيد وصل الدين بالدولة والمجتمع.
لكن “نشأة الأزمة” للحركة جعلت مشروعها محكوماً بهاجس “الاستعادة” أكثر من “الإبداع”، فبدل أن تبدأ من بناء رؤية جديدة وتجديد الفكر لمقتضيات العصر، انطلقت من فكرة “استرجاع الخلافة” باعتبارها رمزاً للسيادة الإسلامية المفقودة. وهكذا، غلب على مشروعها الطابع الحركي والتنظيمي، فكان همّها الأول التعبئة الجماهيرية وبناء الجهاز الدعوي والسياسي، أكثر من الانشغال بتطوير الاجتهاد الفقهي والفكري الذي يؤسس للنهوض على أسس معرفية راسخة.
لقد سعت الحركة إلى إعادة الإسلام إلى الحياة العامة من خلال التربية والتنظيم والدعوة، لكنها واجهت تحديات متعددة: صدامها المبكر مع السلطة، وضبابية موقفها من الدولة الحديثة، وميلها إلى “أسلمة السياسة” أكثر من “تسييس الإسلام”. لذلك بقي خطابها متأرجحاً بين الدعوي والسياسي، وبين الشمولية التنظيمية والمرونة الإصلاحية.
ويمكن القول إن كل حركة إسلامية كبرى وُلدت في رحم أزمة كبرى، فالأزمة هنا ليست مجرد ظرف خارجي، بل هي المولد الحقيقي لأفكارها وهويتها ومسارها. فكما أن سقوط الخلافة ولّد الإخوان، فإن احتلال أفغانستان أنجب السلفية الجهادية، وضياع فلسطين أسس لخطاب التحرير الإسلامي، والاختناق الثقافي في العالم الإسلامي المعاصر دفع إلى صعود الدعوات السلفية المحافظة. لذلك يصعب القول إن الحركات الإسلامية المعاصرة هي في جوهرها محاولات مختلفة لمعالجة أزمة الوجود الإسلامي الحديث، لكنها – في كثير من الأحيان – لم تتجاوز منطق الاستجابة للأزمة إلى مستوى “إعادة بناء التصور الحضاري” الذي يعيد صياغة علاقة الإسلام بالعصر.
2- حزب التحرير الإسلامي (1953م): فكرة الخلافة في زمن الدولة القُطْرية
وُلد حزب التحرير الإسلامي سنة 1953م على يد تقي الدين النبهاني في القدس، في مرحلة كانت الأمة الإسلامية تعيش آخر أكبر التحولات في تاريخها الحديث: ضياع فلسطين سنة 1948م، وقيام الدولة القطرية الحديثة في العالم العربي بعد انحلال الخلافة العثمانية.
هذا السياق المشحون بالألَمية والخيبة جعل الحزب يبني مشروعاً فكرياً يقوم على استعادة “الخلافة الراشدة” باعتبارها الحل الجذري لكل أزمات الأمة، من ضياع الهوية إلى التبعية السياسية والاقتصادية. لقد رأى مؤسسه أن انهيار النظام السياسي الإسلامي هو السبب المركزي لكل هذه الأزمات، وأن إعادة بنائه وفق أصول الشريعة هو المفتاح الذي سيعيد للأمة حضارتها وقوتها.
غير أن هذا التركيز المفرط على النظام السياسي جعل الحزب يتعامل مع الإسلام من زاوية “الدولة أولاً”، فجُعلت الدعوة إلى مشروع إعادة “الشرعية السياسية الضائعة” أكثر من كونها عملية اجتماعية أو تربوية لإحياء الوعي والنهضة الحضارية. فخطابه ظل محصوراً حسب التنظير الدستوري والفكري حول “نظام الحكم في الإسلام” دون أن ينخرط فعلياً في معالجة القضايا المعيشية أو النفسية أو التربوية التي كانت تمزق المجتمعات المسلمة بعد الاستقلال.
ومن هنا يمكن تسمية “الطابع الفكري–السياسي المجرد” للحزب؛ إذ اكتفى بإنتاج أدبيات فكرية موسوعية حول نظام الحكم، والسياسة الشرعية، والعلاقات الدولية في الإسلام، دون أن يطوّر أدوات عملية للتفاعل مع الواقع أو التدرج في الإصلاح. كان يُنظر إليه على أنه “حركة عقلية مغلقة” تمتلك رؤية نظرية دقيقة، لكنها تفتقر إلى الحس الاجتماعي والسياسي القادر على إدارة التغيير الواقعي.
كما أن الحزب تبنّى موقفاً صارماً من المشاركة في الأنظمة القائمة، رافضاً أي انخراط انتخابي أو إصلاحي داخل الدولة القطرية، معتبراً ذلك تكريساً للتجزئة والاستعمار غير المباشر. هذا الموقف عزله عن دينامية المجتمعات المحلية التي كانت تبحث عن حلول جزئية وإصلاحات واقعية، في حين ظل هو يتحدث بلغة “التحرير الكامل” و“الاستئناف الشامل” لمشروع الخلافة.
وقد أدى هذا الجمود الأيديولوجي إلى إضعاف حضور الحزب جماهيرياً، رغم انتشاره التنظيمي الواسع في المشرق والمغرب وأساساً في الوسط المدرسي. لكنه لم ينجح في تحويل مشروعه إلى حركة اجتماعية قادرة على التأثير في الناس وحاجاتهم اليومية. وهكذا ظل حزب التحرير أسيراً لفكرة “الخلافة” بوصفها رمزاً للشرعية التاريخية، دون أن يتمكن من تأويلها تأويلاً عملياً يناسب تعقيدات الدولة الوطنية الحديثة.
3- السلفية الجهادية: من جهاد التحرير إلى أيديولوجيا الصراع
تعد السلفية الجهادية من أكثر التيارات الإسلامية تطوراً وتحولاً في مسار الفكر الحركي المعاصر، إذ لم تنشأ في فراغ، بل تولدت في سياق تاريخي مشحون بالصراعات الدولية والأيديولوجية. فقد شهدت التجربة الأفغانية ضد الاتحاد السوفياتي أهم الملامح الأولى للميلاد الفعلي لهذا التيار. حين التقت السلفية العقدية، التي كانت تركز على نقاء التوحيد ومقاومة البدع، بالفكر الحركي السياسي الذي حمله الإخوان والمقاتلون القادمون من مختلف الدول الإسلامية. في ذلك المناخ، تحوّل مفهوم “الجهاد” من عبادة فردية تمارس في حالات مخصوصة، إلى أيديولوجيا جهادية “تُسوق” عالمياً باعتبارها واجباً أممياً لتحرير ديار المسلمين من الغزو الأجنبي.
لكن هذا الجهاد الذي كان في بدايته موجهاً ضد احتلال واضح المعالم، سرعان ما تحوّل إلى “منظور دائم للعالم”، إذ أفرزت التجربة الأفغانية جيلاً جديداً من المقاتلين يحمل تصوراً شمولياً للمعركة. يرى أن الصراع مع “العدو” ليس ظرفياً، بل وجودي ومستمر إلى قيام الساعة. ومن هنا ولدت البذور الأولى لفكر “العدو القريب والعدو البعيد”، الذي طوره لاحقاً منظّرو القاعدة أمثال أيمن الظواهري وأبو مصعب السوري.
ومع تكرار الأزمات الكبرى – كاحتلال العراق سنة 2003، وسقوط أنظمة عربية بفعل الثورات، والتدخلات الغربية المتواصلة – لم تنطفئ نار هذا التيار، بل كان يجد في كل “أزمة” بيئة خصبة لإعادة إنتاج ذاته. فكل انهيار سياسي أو احتلال أجنبي أو فراغ أمني يُعتبر في أدبياته “فرصة ربانية” لإعادة إطلاق مشروع الجهاد، مما جعله حركة دورية تتغذى من الأزمات بدل أن تعمل على تجاوزها أو بناء بديل عنها.
بهذا المعنى، انتقلت السلفية الجهادية من كونها حركة مقاومة ظرفية إلى منظومة فكرية مغلقة تُعيد تفسير الواقع دوماً بمنطق “العدو والرد”. فهي لا تنطلق من رؤية اجتماعية أو مشروع إصلاحي متكامل لبناء المجتمع والدولة، بل من معادلة صراعية تعتبر أن “الهوية الإسلامية” لا تُستعاد إلا بالمواجهة المسلحة، وأن البناء الاجتماعي والسياسي مؤجل لا يليق بزمن الجهاد.
لقد أدى هذا المنطق إلى انكماش الرؤية الجهادية في دوائر العنف والرد، وإلى عجزها عن التحول إلى مشروع حضاري أو سياسي مستقر. على عكس ما حدث في بعض الحركات الإسلامية الأخرى التي انتقلت من الصدام إلى المشاركة في الإصلاح التدريجي. فالقابلية داخل التيار الجهادي ظلت محصورة في “التمكين بالقوة”، دون أن يبلور نموذجاً للعائشين أو للتفاعل الاجتماعي الإيجابي.
وهكذا، يمكن القول إن السلفية الجهادية تحوّلت من فكر إصلاحي ثوري في بداياتها، إلى بنية أيديولوجية مغلقة تعيش على “منطق الأزمة”، وتعيد إنتاج ذاتها مع كل انهيار جديد في العالم الإسلامي، بدل أن تكون جزءاً من الحل أو عاملاً في البناء.
4- الطرق الصوفية
الطرق الصوفية – أو ما يعرف بـ“التصوف الطرقي” – تُمثّل استجابة روحية لأزمة مختلفة عن تلك التي أنشأت الحركات الإسلامية السياسية أو الجهادية. ففيما نشأت هذه الأخيرة عادةً في لحظات الانكسار السياسي أو الاحتلال العسكري، تزدهر الطرق الصوفية غالباً في عصور الرخاء والترف، حين يغمر المجتمع إحساس بالشبع المادي يقابله فراغ روحي ومعنوي.
في مثل هذه الفترات، يصاب الناس بما يمكن أن نسميه “الاغتراب الروحي”. إذ يعيش الفرد في عالم مملوء بالمظاهر والاستهلاك، لكنه يشعر داخلياً بفقدان المعنى والسكينة. هنا تتقدم الطرق الصوفية لتقدّم إجابة من نوع آخر لا سياسية ولا فكرية، بل وجدانية وروحية: إنها تُعيد الإنسان إلى الداخل، إلى تجربة الإيمان الباطنية، من خلال الذكر والخلوة والمجاهدة وممارسة طقوس الزهد والتجرّد.
ولذلك نجد أن فترات ازدهار التصوف الكبرى في التاريخ الإسلامي كانت غالباً مرتبطة بزمن استقرار الدولة وقوة العمران، كما في العصر العباسي والمريني والعثماني. ففي حين يخفّ الضغط السياسي والعسكري، ويتحوّل المجتمع نحو الترف والراحة، تتسع الحاجة إلى “المعنى”، فيقصد الناس الزوايا والتكايا والطرق الصوفية ملاذاً من ضجيج الدنيا.
كما أن التصوف – بخلاف الحركات الإصلاحية ذات الطابع العقلي أو الحركي – يركز على إصلاح النفس لا إصلاح النظام، وعلى السمو الداخلي لا التغيير الخارجي. ومن هنا يظهر البعد النفسي العميق فيه: فالصوفي لا يقاوم الظلم السياسي بقدر ما يقاوم ظلمَهُ لنفسه، ولا يدور على الحاكم، بل يدور على قلبه وشهواته.
لكن هذا الازدهار الروحي لا يخلو من إشكالات: إذ لا يمكن أن يتحوّل مع الزمن إلى انعزال سلبي عن قضايا المجتمع، أو إلى طقوس شكلية تفرغ التجربة من مضمونها. لذلك فإن كثيراً من النقاد يرون أن التصوف الطرقي حين ينفصل عن السياق الشرعي والاجتماعي، يتحوّل من “يبحث عن الله” إلى “إلى ملاذ للهروب من الواقع”.
وباختصار يمكن القول إن ازدهار الطرق الصوفية في فترات الرخاء ليس صدفة، بل هو تعبير جلّي عن فقدان المادة وقصص المعنى، فحين تسعُ الأجساد وتضيق الأرواح، يستدعي التصوف ليعيد التوازن بين العالمين.
ثالثاً: الأزمة بوصفها محدداً للمنهج والرؤية
رغم هذا التنوع في الاتجاهات والمناهج، فإن القاسم المشترك بينها جميعاً هو غياب الرؤية الشمولية التي تُعالج الأزمة في جذورها الفكرية. فالأزمة ليست فقط في السياسة أو الأخلاق أو الروح، بل في بنية الوعي الإسلامي الحديث ذاته، أزمة تتجلّى في أربعة مستويات مترابطة:
1- أزمة الوعي
إذ لا تزال الحركات الإسلامية، بمختلف أطيافها، تتعامل مع الواقع بوعيٍ تجزيئي، يقدّم الحلول الجزئية دون إدراك الارتباط العميق بين السياسة والدين والاقتصاد والثقافة. فغياب الرؤية التقنية جعلها تكرّر نفس الأخطاء التاريخية في فهم الدين والواقع معاً.
2- أزمة العلاقة بين الدين والدولة
فمعظم هذه التيارات لم تنجح في بلورة تصورٍ متوازن لعلاقة الدين بالسياسة؛ إذ تراوحت بين نموذج “الثيوقراطية الماضية” التي تجعل الدولة خادمة للدين، ونموذج “العلمانية القاسية” التي تفصل بينهما فصلاً مُراً. وما يزال الفكر الإسلامي يبحث عن صيغة تتجاوز هذا التقابل العقيم.
3- أزمة المفهوم السياسي للسلطة
إذ ظلت السلطة في الوعي الإسلامي محاطة بهالة دينية، مما حال دون تطوير مفهوم حديث للحكم يقوم على المواطنة والمحاسبة والتداول. فالإسلاميون، حين سعوا للوصول إلى الحكم، أعادوا إنتاج نفس أنماط السلطة التقليدية التي كانوا ينتقدونها.
4- أزمة المنهج في التعامل مع الحداثة
حيث انقسمت التيارات بين رفضٍ للحداثة جملة وتفصيلاً، ومن حاول التوفيق السطحي بين “الأصالة والمعاصرة”، دون امتلاك أدوات معرفية لتحليلها نقدياً. فظل الفكر الإسلامي الحديث متردداً بين التقليد والذوبان، عاجزاً عن إنتاج حداثة خاصة به تنبع من قيمه ومقاصده.
في المحصلة، يمكن القول إن التيارات الإسلامية المعاصرة، رغم اختلاف مرجعياتها وأساليبها، تلتقي عند منبع واحد هو الاستجابة للأزمة لا تجاوزها. فهي جميعاً انعكاس لحالة القلق التي عاشها الوعي الإسلامي منذ سقوط الخلافة، لكنها لم تتحول بعد إلى مشاريع فكرية قادرة على تفكيك البنية المنتجة لأزمتها، أو بناء بديل حضاري جديد.
لم تنتقل هذه التيارات من “منطق التبرير” إلى “منهج التفكير”، ومن “ردّ الفعل” إلى “فعل الإصلاح البنيوي”، ستظل تدور في الحلقة نفسها التي وُلدت منها.
رابعاً: من ردّة الفعل إلى مشروع البناء
إن أغلب الحركات الإسلامية نشأت في لحظات أزمة، فكانت في أصلها ردود أفعال دفاعية أكثر منها مشاريع تأسيسية. ومع مرور الزمن، ظلّت هذه الحركات أسيرة منطق “المواجهة” أو “الإنقاذ المؤقت”، دون أن تتمكن من الانتقال إلى مرحلة “البناء الاستراتيجي” القائم على الوعي التاريخي، والتفكير المنهجي، والتخطيط البعيد المدى.
ولتحقيق هذا التحول الجوهري، لا بد من مراجعة أربع ركائز أساسية:
- إعادة تعريف الأزمة
غالباً ما تختزل أزمات العالم الإسلامي في بعدها الديني أو الأخلاقي، فيقال إن ضعف التدين أو التخلي عن الشريعة هو أصل الانحطاط. غير أن الأزمات التاريخية أعقد من هذا التفسير التبسطي.
فالانهيارات التي عرفها العالم الإسلامي كانت نتيجة تراكم اختلالات بنيوية في مجالات متعددة:
اقتصادياً:
فشل في إنتاج الثروة وتوزيعها بعدل.
تعليمياً:
ضعف في تكوين الإنسان القادر على النقد والإبداع.
إدارياً وسياسياً:
استبداد وهيمنة النخب التقليدية وغياب الشفافية.
ثقافياً:
صدام بين منظومات القيم الحديثة والتراثية دون مشروع وسطي جامع.
إعادة تعريف الأزمة بهذا الشكل يسمح للحركات الفكرية والسياسية بأن تتحرر من التبريرات الدينية السطحية، وأن تنخرط في تشخيص علمي مركّب للأوضاع، يجمع بين علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والدين، بدل أن تحصر الأزمة في “ضعف الإيمان” فقط.
- تجديد أدوات التفكير
الانتقال من “الفقه الحركي” إلى “الفقه الحضاري” يعني التحول من منطق الطوارئ إلى منطق البناء.
فالفقه الحركي ينشأ عادةً في أجواء المواجهة، فيتعامل مع الواقع بوصفه عدوّاً أو خطراً يجب دفعه، بينما الفقه الحضاري ينظر إلى الواقع بوصفه مجالاً للتعمير والتفاعل الإيجابي، ويقتضي هذا التجديد:
بناء مناهج علمية مركّبة في التحليل تجمع بين المقاصد الشرعية والعلوم الاجتماعية.
تطوير الاجتهاد المؤسسي بدل الاجتهاد الفردي.
الانتقال من ثقافة “النص المجتزأ” إلى ثقافة “المقاصد والسياقات”.
الانفتاح على العلوم الإنسانية الحديثة (علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، الفكر السياسي) باعتبارها أدوات لفهم الإنسان والمجتمع، لا تهديداً للعقيدة.
– النظر في جدلية الدين والسياسة
أحد أعقد الإشكالات في الفكر الإسلامي المعاصر هو الخلط بين الإسلام كمرجعية قيمية وبين العمل السياسي كاجتهاد بشري.
فإذا كان الإسلام يقدم منظومة أخلاقية وروحية يمكن أن تكون إطاراً ملهِماً للحكم الرشيد، لكنه لا يفرض نموذجاً سياسياً محدداً.
وبالتالي فإن:
الممارسة السياسية يجب أن تبقى مجالاً للاجتهاد الإنساني القابل للخطأ والصواب، وليست مجالاً للتقديس.
الفصل المنهجي لا يعني القطيعة، بل يعني تحرير السياسة من القداسة، وتحرير الدين من التوظيف الأيديولوجي.
يمكن بناء علاقة تفاعلية بين القيم الدينية والممارسة السياسية، تضمن الأصالة من جهة والواقعية من جهة أخرى.
تحرير الفكرة الإسلامية من أسر الأزمات
لقد ظل الفكر الإسلامي أسير “النكسة” و“السقوط” و“الاستهداف الخارجي”، وكأن الأمة في حالة دفاع دائم.
لكن النهضة لا يمكن أن تُبنى على الشعور بالمظلومية فقط، بل تحتاج إلى مشروع معرفي جديد يقرأ التاريخ قراءة نقدية لا حزينة.
النقد البنّاء يقتضي الاعتراف بالأخطاء التاريخية:
فشل التجارب السياسية، انغلاق الفقه، غياب المرآة، تغييب العقل العلمي… إلخ.
كما يقتضي تجاوز “عقلية الاستعادة” (استعادة الخلافة أو الدولة القديمة) نحو “عقلية الإنشاء” (بناء نموذج معاصر مستلهم من القيم الإسلامية).
فالإسلام في جوهره مشروع تحرّر وبناء إنساني شامل، لا مجرد ردّ على الغرب أو على الحداثة.
إنّ الانتقال من ردّة الفعل إلى مشروع البناء هو الممر الإجباري لأي نهضة فكرية إسلامية معاصرة.
ولا يمكن أن يتحقق هذا التحول إلا عبر:
إعادة تعريف الذات والعالم بمنهج علمي نقدي.
تجاوز الخطابات التعبوية إلى مشاريع فكرية ومؤسساتية.
الانخراط في بناء الإنسان والمجتمع على أسس قيمية وعقلانية معاً.
فالنّهضة ليست استرجاعاً للماضي، بل قدرة على ابتكار المستقبل بروح الإيمان وعقل العصر.
خامساً: نحو رؤية جديدة للحركات الإسلامية: من منطق الأزمة إلى منطق البناء
لقد وُلدت أغلب الحركات الإسلامية في رحم الأزمات، وتكوّن وعيها الجمعي في سياق الهزائم والانكسارات المتتالية التي أصابت الأمة الإسلامية سياسياً وحضارياً. ومن ثَمّ، كان من الطبيعي أن يتشكّل وعيها على قاعدة “الردّ” لا على قاعدة “المبادرة”.
فالحركات التي تنشأ لتجيب عن أزمة، تظلّ أسيرة السؤال الذي وُلِدت منه، ما لم تُدرك ضرورة التحرر من شرط النشأة نحو أفق أرحب من الفعل والإبداع.
أولاً: من “عقدة الأزمة” إلى “وعي التحول”
إن ما يمكن تسميته بعقدة الأزمة هو حالة ذهنية ومؤسسية تجعل الحركة تفكر دائماً بمنطق “التهديد”، لا بمنطق “الفرصة”، فتغلب خطاباتها على الدفاع عن الذات، وتسعى مشاريعها كردود فعل على الواقع، بدل أن تكون صانعةً للواقع الجديد.
وتكمن خطورة هذا النمط من التفكير في أنه يحول الحركات الإسلامية إلى كائنات تتغذى من الصراع، وتفقد قدرتها على الحياة في أوقات السلم أو الاستقرار، إذ لا تجد نفسها إلا في سياق المواجهة أو الاحتجاج.
تجاوز هذه العقدة يتطلب وعياً جديداً
يرى في الأزمة نقطة انطلاق لا نقطة ارتكاز؛ أي أن يتم تحويل لحظة الانكسار إلى فرصة للمراجعة، ومن ثم الانطلاق نحو إعادة بناء الذات الفكرية والمؤسسية، وفق شروط الواقع الجديد.
ثانياً: من رَدّة الفعل إلى “صناعة الفعل”
إن الانتقال من منطق “ردّ الفعل” إلى منطق “صناعة الفعل” يعني الانتقال من:
موقع التأثر إلى موقع التأثير،
ومن موقع الاحتجاج على التاريخ إلى موقع صناعة التاريخ.
فردّ الفعل هو استجابة ظرفية تمليها الأحداث، بينما صناعة الفعل هي مشروع استراتيجي تمليه الرؤية.
ولذلك، فإن الحركات التي تبقى أسيرة ردود الفعل ستظل سيرتها التاريخية تراجع إلى “الوراء”، لأنها لم تنجح في بلورة مشروع يعالجها على المدى الطويل، بسبب أن اللحظة ولاّدة نسياً وولّادة ردودها.
وهذا يتطلب تجديد أدوات الفهم والعمل:
- على المستوى الفكري:
لا بد من بناء فكر مقاصدي يتجاوز النصوص الجزئية إلى الوعي بوظائف الدين في الواقع المعاصر.
- على المستوى التنظيمي:
يجب أن تتحول الحركات من هياكل مغلقة إلى فضاءات تفاعلية منفتحة على المجتمع، تُشاركه لا تُغلق عليه.
- على المستوى السياسي:
لا بد من الانتقال من خطاب “استعادة الماضي” إلى خطاب “بناء المستقبل”، ومن “التاريخ كذاكرة” إلى “التاريخ كمشروع”.
ثالثاً: من “الحصن الخارجي” إلى “المشروع الداخلي”
لقد أمضت الحركات الإسلامية عقوداً وهي تنشغل بـ”العدو الخارجي” أكثر مما تنشغل بـ”المجتمع الداخلي”.
فالاستبداد، والعلمانية، والغرب، والأنظمة… صارت جميعها في خطابها عوائق مفسّرة للفشل أكثر من كونها عوائق متجاوزة بالفعل.
لكن بناء الأمة لا يتحقق بالانفعال ضد الآخرين، بل بإعادة بناء الذات من الداخل:
عبر إصلاح التعليم، وترميم القيم، وتحرير العقل، وإحياء روح الاجتهاد.
فالعدو الحقيقي للأمة ليس “الآخر” بقدر ما هو العجز عن التجديد، والجمود عن الفعل، والانغماس في الذاكرة. ومن هنا يجب أن يتغيّر السؤال المركزي من:
“من يقف ضدنا؟”
إلى:
“ما المشروع الذي يوحدنا؟”
رابعاً: من “حركة الأزمة” إلى “حركة البناء”
الفرق بين حركة الأزمة وحركة البناء هو الفرق بين ردّ اللحظة وصناعة التاريخ.
حركة الأزمة تشتغل بالواجهة، وتفقد نفسها بتعقيدها، فوجودها مرهون بوجود العدو أو الخصم أو الحدث.
حركة البناء تشتغل بالعمق، وتعرّف نفسها بالمشروع، فوجودها مرهون بقدرتها على الإبداع والتحوّل والإنجاز.
وحين تصبح الحركات الإسلامية مشاريع بناء، فإنها تنتقل من طور “الفاعلية الوجدانية” إلى “الفاعلية الحضارية”، أي من تحريك المشاعر إلى بناء الأفكار، ومن تعبئة الجماهير إلى صناعة الإنسان القادر على الفعل التاريخي المستدام.
خامساً: نحو عقل استراتيجي جديد
إن الرؤية الجديدة للحركات الإسلامية تقتضي عقلاً استراتيجياً لا يكتفي بتشخيص الأزمات، بل يسعى إلى بناء بدائل موضوعية.
عقل يوازن بين الدين والقيمة، لا بين الدين والسلطة فقط.
عقل يرى في العمل المدني امتداداً للدعوة، وفي الحرية شرطاً للإيمان، وفي العدالة شرطاً للشرعية.
عقل يعيد ترتيب الأولويات: من الصراع على الحكم إلى الصراع ضد الجهل، ومن إدارة الغضب إلى إدارة الأمل.
تجديد الحركات الإسلامية لا يعني تخليها عن مرجعيتها، بل توسّع وعيها بمقتضيات العصر.
فالدين لم ينزل ليسير الماضي، بل ليبني المستقبل.
والمؤمن الحق ليس من ينوح على الخلافة المفقودة، بل من يعمل لبناء الإنسان المختلف.
حركة البناء لا تبدأ من “الشكوى”، بل من “الرؤية”، ولا تستمد قوتها من “الحنين”، بل من “الإبداع”.
خاتمة
يمكن القول إن التيارات الإسلامية الحديثة ليست مجرد حركات دينية، بل هي ظواهر اجتماعية–تاريخية تعكس قلق الأمة وهشاشة وعيها الجمعي في مواجهة الحداثة والتحديات الدولية. غير أن استمرارها في منطق الأزمة سيجعلها تدور في حلقة مفرغة، بينما خلاصها الحقيقي يبدأ حين تعيد تعريف ذاتها بوصفها حركات وعي وبناء لا ردّات فعل عاطفية.
فما تحتاجه الأمة اليوم ليس “ردّ الأزمات” بل تجاوز منطقها، ببناء وعي حضاري يجمع بين الإيمان والعقل، وبين الدعوة والتنمية، وبين الهوية والانفتاح.
