لم تكن الخرجة المفاجئة للصحافي نور الدين لشهب سوى ارتطام ثقيل في صمتٍ أصبح هو القاعدة. تصريحاته لم تكن مجرّد رأي، بل بمثابة انكشاف خللٍ مركزي في بنية التأثير السياسي بالمغرب، حين اتّهم الكاتبة والناشطة مايسة سلامة الناجي بتلقّي تمويلات سخية في عزّ الأزمة الحكومية لسنة “البلوكاج”، لتوجيه حملات رقمية ضد عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة المكلّف حينها.
والمثير في الأمر أن الجهة المموِّلة، بحسب لشهب، لم تكن سوى رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش، وهو ما يضفي على الاتهام ثقلاً مضاعفًا، ويجرّه من خانة التصفية الشخصية إلى دائرة الشبهة السياسية ذات البعد العام.
الحديث عن شيك بقيمة 60 ألف درهم، ومبلغ يصل إلى 75 مليون سنتيم، في سياق سياسي متوتر، ليس مجرّد تهمة شخصية، بل سؤال عميق عن نزاهة المشهد السياسي حين يلتقي المال بالمحتوى، ويصير الرأي موقفًا مأجورًا.
إن صحّت الاتهامات، فنحن لا نعيش أزمة تدوينة، بل أزمة منظومة تعيد تشكيل علاقتها بالناخب من خلال الخوارزميات والبزنس الرمزي.
الفاعل السياسي لم يعُد مضطرًا لإقناع الناس، بل يكفيه أن يدفع لمن يوجه عقولهم في السرّ، ويُحرّك موجات الرأي كما تُحرّك الإعلانات في لحظة استهلاك.
والأخطر من ذلك، أن هذه الممارسات – التي يُشار إليها دون أن تُكذَّب – تجري تحت أعين الجميع، في سياق يُستبدل فيه المشروع السياسي بالمنشور المدفوع، ويُتداول فيه القرار داخل غرف البث، لا غرف التشريع.
الخلاف لا يخص شخصين، بل يُسلّط الضوء على فجوة آخذة في الاتساع بين الخطاب العمومي ودوائر النفوذ الرقمي. فحين يقول الصحافي إن “الكل يعرف”، فهو لا يُطلق تهمة، بل يُلوّح بمأساة أعمق: علمٌ شامل بخللٍ خطير، وصمتٌ شامل عن إصلاحه.
وإذا كان الرأي يُشترى، والتدوينة تُوجّه، فهل بقيت للمواطن مساحة يفكر فيها بعيدًا عن الضخّ الممنهج؟
ما يحدث اليوم ما هو إلا تجلٍّ لواقعٍ اختارت فيه السياسة أن تتجمّل بدل أن تتفكر. السياسي صار يبحث عن الظهور لا عن الأثر، عن الكاميرا لا عن الكفاءة، حتى غدت الممارسة الحزبية مزيجًا من التسويق الفارغ والوساطة الناعمة.
لم يعُد السياسي يُقنع، بل يُصفّف. ولم يعُد الرأي يُبنى، بل يُشترى. وبينهما ضاعت القيم، وضاعت معها القدرة على التفريق بين الموقف والصفقة، وبين من يكتب دفاعًا عمّا يؤمن به، ومن يكتب عمّا يُطلب منه.
منصّات مُخترَقة… وغيابٌ مؤسساتي مريب
في دول تُحترم فيها السياسة، تُفتح مثل هذه القضايا على طاولة المساءلة، لا في ساحة السوشيال ميديا. لكن في مشهدنا، تُرمى التهم الثقيلة ولا أحد يُكذّب أو يُحقق. وهنا مكمن الخطر: حين تصبح الثقة آخر ضحايا الصمت.
ما قيل في هذه النازلة – سواء كان صحيحًا أو مفبركًا – كان يستدعي ردًّا صريحًا، لا تجاهلًا يُشبه التواطؤ.
الخاتمة: لا معنى للسياسة حين تُبتلع داخل تحويل بنكي
ليست الفضيحة في الاتهام، بل في احتمال أن يكون صادقًا، ثم لا يتحرك أحد. ليست الأزمة في “مايسة” أو “لشهب”، بل في نظام تأثيرٍ جديد يُدار من خلف الستار، بأدوات ناعمة ونتائج قاتلة.
وإذا كانت السياسة تُدار بهذا الشكل، فاقرأوا السلام على الأحزاب.
فالسياسة إن تحوّلت إلى صفقة، وإن أصبح المؤثر أهم من البرلماني، والشيك أهم من الاقتراح، فوداعًا للمعنى، ومرحبًا بالفراغ.