لم يعد من الممكن الاستمرار في تجاهل طبيعة التدبير الذي تنهجه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تحت وصاية الوزير أحمد التوفيق.
فقرار إعفاء رئيس المجلس العلمي المحلي لفجيج، الدكتور محمد بنعلي، لم يكن سوى الحلقة الأخيرة في سلسلة طويلة من الممارسات التي تُظهر أن الشأن الديني في المغرب يُدار بعقلية فوقية، تفتقر لأبسط قواعد الشفافية، وتكرّس منطق “القرار النازل” الذي لا يشرح ولا يُسأل.
كشفت واقعة الإعفاء، التي لم يُرفقها الوزير بأي بلاغ توضيحي أو تعليل رسمي، عن خلل عميق في العلاقة بين المركز وباقي المكونات العلمية المحلية.
فقرار إعفاء عالم محترم، دون مساءلة، ودون رأي للمجلس العلمي الأعلى، ودون استفسار مباشر، يكشف أن الوزارة أصبحت تُدير المؤسسات الدينية بمنطق “الإدارة السلطانية”، حيث يكفي توقيع الوزير لإسقاط عالم من منصبه كما لو أنه مجرّد موظف في مكتب البريد.
من يتابع طريقة تدبير أحمد التوفيق للشأن الديني منذ أكثر من عشرين عامًا، يدرك أننا أمام وزير يُشبه في أسلوبه الباشا الكلاوي، ذاك القائد التقليدي الذي كان يحكم مراكش بسلطة مطلقة في عهد الحماية، دون مساءلة ولا معارضة، وكأن الأمر يتعلق بمملكة داخل المملكة. الوزير الحالي يُصدر قراراته بنفس المنطق: يُقرّر، يُنفّذ، ويترك الصمت يُفسّر.
وربما لهذا السبب، لم يكن غريبًا أن يصف العالم المقاصدي والرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الدكتور أحمد الريسوني، وزارة الأوقاف بأنها “رمز التخلف السحيق”، مضيفًا في تدوينة غاضبة: “لو طلب مني أن أُنشئ هيئة تُشوّه الإسلام، لما وجدت أنسب من وزارة الأوقاف”.
عالم يُعفى… لأن صوته تجاوز عتبة الصمت
اللافت أن الدكتور محمد بنعلي، الذي تم إعفاؤه، كان قد نشر قبل أيام فقط تدوينات انتقد فيها صمت العلماء تجاه ما يجري في غزة، واعتبر أن العلماء يتحمّلون القسط الأكبر من المسؤولية، لأنهم اختاروا التزام الحياد في قضايا الأمة.
ورغم أن بنعلي نفسه أقرّ بغياب جزئي عن المجلس، إلا أن توقيت الإعفاء والسياق المحيط به جعلا من القرار علامة استفهام كبيرة.
وإذا كانت التدوينات قد أزعجت الوزارة، فهذا يُحيل على إشكالية أعمق: هل أصبح على العالم المغربي أن يلتزم الصمت التام؟ هل حُرم من حقه في التعبير، حتى عندما يتعلّق الأمر بمأساة إنسانية كبرى؟ وهل تتحول وزارة الشؤون الإسلامية إلى هيئة رقابة أخلاقية تمنح صكوك التعبير لمن يوافقها، وتسحب المناصب ممن لا يلتزم بخطها المرسوم؟
من النادر أن يظهر أحمد التوفيق في الإعلام، أو أن يقدّم للرأي العام توضيحًا بشأن قرارات وزارته. الوزير الذي يكتب خطب الجمعة بيده، ويُشرف على تعيين الخطباء والوعّاظ، يُدير قطاعًا حساسًا بمنطق “الزاوية الإدارية”، حيث لا مكان للنقاش، ولا حاجة للتبرير، ولا اهتمام بحق المواطن في الفهم والمساءلة.
لكن المغرب ليس زاوية، ولا ملكية خاصة. نحن أمام دولة يُفترض أنها تؤمن بدستور، وتخضع مؤسساتها للمحاسبة. ومن غير المقبول أن يُعفى عالم من منصبه لأن صوته تجاوز السقف المرسوم له. فالوزارة ليست ضيعة، والوزير ليس شيخ طريقة، والمجالس العلمية ليست زينة مؤسساتية في جدران الإدارة.
لقد تحوّلت وزارة الأوقاف في عهد التوفيق إلى جهاز ضبط أكثر منها مؤسسة توجيه. همّها الأول هو التحكم في الخطاب، وضمان أن يكون مطيعًا، لا مشاكسًا. أن يكون آمنًا، لا مثيرًا. أن يُحاكي بلاغات المؤسسات، لا أن يُربك صمتها.
وما حدث مع بنعلي يُظهر أن الوزارة لم تعد تتحمّل حتى مجرّد نقد داخلي صادر من أحد أطرها. فالولاء، في منطقها، مقدم على الكفاءة. والالتزام بالصمت أهم من الالتزام بالعلم. وكل من تجرأ على تجاوز الحياد المهني نحو التعبير الصريح، أصبح مشروع إعفاء مؤجّل.
في الختام…
لم نكن ننتظر من وزارة الأوقاف أن تُجاري وسائل التواصل الاجتماعي، ولا أن تنخرط في الضجيج السياسي. لكننا كنا ننتظر منها شيئًا واحدًا فقط: أن تحترم عقول المغاربة. أن تُعلّل قراراتها، وتُخضع أداءها للنقاش العمومي، وألا تُمارس سلطة الصمت باسم الدين.
أما الوزير أحمد التوفيق، فقد آن الأوان أن يُدرك أن الشأن الديني ليس حديقة خلفية، ولا سلطة مقدسة، بل مجال عمومي له ضوابطه وحدوده. والذين يتحدثون باسم الدين لا يُمكنهم أن يكمموا أفواه العلماء، ثم يُطالبوا المجتمع بالإصغاء.