الحيداوي عبد الفتاح
في الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش، كتب السيد عبد الله بوصوف، الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج، عن “ثلة من الكفاءات المغربية” التي شاركت في احتفالات عيد العرش، مشيرًا إلى مبادرات ثقافية، أبرزها إحداث “متحف البرّاد المغربي” بوجدة، والذي اعتُبر – بحسب تعبيره – مشروعًا طموحًا وإشعاعًا ثقافيًا يعزز الهوية المغربية بالخارج.
قد يبدو هذا التصريح في ظاهره احتفائيًا، لكنه يعكس في العمق مأزقًا أعمق وأخطر: الانفصال بين مؤسسات تُعنى بالجالية المغربية، وبين التحولات العميقة التي يعرفها أبناء هذه الجالية، لا سيما الجيل الثاني والثالث في أوروبا. فهل أصبحت رمزية “البراد المغربي” هي أفق الطموح الثقافي لمؤسسة وطنية يُفترض أنها تضم مثقفين، باحثين، وخبراء قادرين على فهم تعقيدات الهوية في زمن العولمة والهجرة العابرة للثقافات؟
إن الإشكال لا يكمن في التقدير الرمزي لأدوات الذاكرة الشعبية – كالبرّاد أو القفطان أو الكسكس – بل في اختزال الثقافة المغربية، بكل عمقها التاريخي والفلسفي والديني والحقوقي، إلى عناصر فولكلورية تُستهلك بشكل احتفالي عابر، دون أن تلامس جوهر التحديات التي يعيشها الشباب المغربي في أوروبا. شبابٌ يتخبط بين التمييز، والبحث عن الانتماء، وصراع الهويات، وغياب التأطير الفكري الجاد، فلا يجد في أنشطة مؤسسات الوطن ما يتفاعل مع أسئلته الحارقة، بل يرى في الكثير منها اجترارًا لصور نمطية لا تشبهه، ولا تنصت إليه.
كيف يمكن لجيلٍ يتابع أمهات القضايا المعاصرة كأزمة اللجوء، وصعود اليمين المتطرف، وأسئلة ما بعد الحداثة، وأزمات الهوية، أن يرى في متحف “البراد” مشروعًا يعكس طموحاته؟ بل كيف نفهم أن مؤسسة بمستوى “مجلس الجالية” لم تقدّم إلى الآن أي مشروع فكري استراتيجي جريء، يطرح أسئلة الثقافة الإسلامية في الغرب، أو الدين في الفضاء العمومي الأوروبي، أو أزمة تمثلات المغرب لدى أبناء الجيل الجديد؟
ليس المطلوب من المؤسسة أن تهجر الرموز الثقافية، ولكن أن توظفها في مشروع فكري حقيقي يتحدث بلغة العصر، ويخاطب العقل لا فقط العاطفة. أن تنتقل من منطق الاستعراض إلى منطق الفعل النقدي. من ثقافة المناسبات إلى صناعة الوعي. أن تُشرك الشباب لا فقط كزينة للصور الرسمية، بل كمحاور وشريك ومبادر. فبقدر ما تحمل الجالية المغربية ثروات مادية ومعنوية، بقدر ما تحتاج إلى من يفهم وجعها، وغربتها، وموقعها المعقّد بين الولاء والانتماء.
إن الاستمرار في إنتاج هذه الأنشطة الشكلية لا يساهم في “الإشعاع”، بل في عزلة المؤسسة عن واقع الجالية. وهذا ما يفسر فتور تفاعل الشباب المغربي مع مبادرات الدولة، لا بسبب ضعف الوطنية، بل لانعدام من يمثلهم تمثيلًا حقيقيًا في المؤسسات الرسمية. إنهم يشعرون – وبحق – أن من يتحدث باسمهم لا يفهمهم، وأن من يُدبّر شأنهم لا ينتمي إلى جيلهم، ولا إلى قضاياهم اليومية.
إن الثقافة ليست صورة “براد” على رف، بل هي قدرة على طرح الأسئلة الصعبة، وبناء الجسور بين الذاكرة والمستقبل. والإشعاع الحقيقي لا يصدر من “متحف”، بل من فكرة، من كتاب، من مناظرة، من ملتقى يحترم ذكاء الشباب المغربي، ويمنحه حق المشاركة، لا مجرد الحضور.
ختامًا، إذا كنا نطمح إلى مغرب منفتح، متصالح مع أبنائه، متفاعل مع العالم، فليكن أول شرط لذلك أن نعيد النظر في عقول ومناهج المؤسسات، وأن نعيد الاعتبار للإشعاع الفكري، لا فقط الفلكلوري. آن الأوان أن يفهم من يمسك بدفة المؤسسات أن الجيل الجديد لا يُقنعه “البراد”، بل يُقنعه السؤال، والمعنى، والمستقبل.