من وادي السيليكون إلى الشانزليزيه، تمر قرارات المغرب الرقمية عبر ممرات غير مفهومة الاتجاه. الوزير كريم زيدان، الذي كان يُنتظر منه أن يُحدِث قفزة تكنولوجية جريئة، اختار أن يُطلق “ثورة رقمية” ببوصلات مستعارة، وشراكات لا تُراهن على الريادة، بل على التقليد المريح.
في زمنٍ تتسابق فيه الدول نحو مواقع التأثير التكنولوجي، حيث تتحرك مراكز الذكاء الاصطناعي في مدارات واشنطن، بيكين، ولندن، يختار زيدان شريكًا فرنسيًا لإنشاء مركز امتياز في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي… وكأن القطار الذي غادر المحطة منذ سنوات، ما يزال في نظره متوقفًا في باريس.
ولأن البوصلة لا تخطئ إلا حين تُمسك من غير أهلها، يصبح “المغرب الرقمي 2030” شعارًا طموحًا… لكن باتجاه غير معروف.
حسب مصادر إعلامية، أشرف الوزير المنتدب المكلف بالاستثمار والتقائية وتقييم السياسات العمومية، كريم زيدان، على توقيع بروتوكول شراكة مع شركة فرنسية لإحداث مركز امتياز في مجال الذكاء الاصطناعي، وذلك في إطار الاستراتيجية الوطنية “المغرب الرقمي 2030”.
المثير في هذه الشراكة ليس فقط طابعها المفاجئ، بل هوية الطرف المُختار: فرنسا، التي ليست ضمن الدول الخمس الأولى عالميًا في الذكاء الاصطناعي، لا على مستوى الابتكار ولا على مستوى الاستثمار ولا حتى البنية التحتية.
ما يُثير تساؤلات مشروعة: هل يتعلق الأمر فعلاً برؤية رقمية متبصّرة، أم بمجرد ولاء سياسي قديم بلباس تكنولوجي جديد؟
الذكاء يُصنع بالإنجليزية… ويُستورد بالفرنسية
في بيئة يتحرّك فيها الذكاء الاصطناعي بلغة إنجليزية مفرطة التخصص، تبدو المقاربة المغربية كأنها تنتظر الترجمة أولًا، ثم التكييف الإداري، فالتنفيذ المؤجل.
وبينما تُنتج الصين والولايات المتحدة وألمانيا أنظمةً متقدمة تُحدث ثورات حقيقية في التعليم والصحة والأمن السيبراني، يعوّل المغرب على شركة فرنسية لا يعرف لها المواطن العادي اسمًا ولا سجلًا علميًا بارزًا.
فهل اختار زيدان من يُتقن التفاوض على الورق؟ أم من يُجيد تطوير الخوارزميات على الأرض؟
حين تُموّل الإمارات مراكز البيانات… ويوقّع زيدان في اتجاه آخر
المفارقة المؤلمة، أن المغرب لا ينقصه الدعم ولا الطموح.
فالإمارات، مثلاً، أبرمت اتفاقًا رفيع المستوى مع فرنسا لتشييد مركز بيانات ضخم للذكاء الاصطناعي على التراب المغربي، بمواصفات عالمية وقدرات طاقية ضخمة، بشراكة مع عمالقة دوليين مثل Nvidia وNaver الكورية.
ولكن…
رغم كل هذه المؤشرات، هناك غموض في الرؤية المغربية، خاصة عند الحديث عن السيادة الرقمية. ففي الوقت الذي تُموّل فيه الإمارات مراكز بيانات كبرى على التراب المغربي، نلاحظ أن الاختيارات الوزارية تتجه نحو الشراكات الفرنسية التقليدية، التي تُثير تساؤلات عن مدى استقلالية القرار التقني المغربي، وعن طبيعة المعايير التي تُعتمد فعليًا في اختيار الشركاء.
الرؤية غير واضحة… والاتجاه بلا عنوان
الغريب أن كريم زيدان، القادم من ألمانيا، البلد الذي يُعد من أكثر الدول الأوروبية تطورًا في مجال الأبحاث والابتكار الصناعي، لم يفتح قنوات التعاون مع بلدان مثل ألمانيا، أو الصين، أو حتى الولايات المتحدة، وفضّل التوقيع على شراكة مع شركة فرنسية قد تكون بارعة في البروتوكول، لكنها متأخرة في السباق العالمي نحو الذكاء.
لا أحد يتهم، لكن من حق الرأي العام أن يسأل:
هل تم استشارة خبرائنا في الخارج؟ هل تم الإنصات لمهندسي الذكاء الاصطناعي المغاربة المنتشرين في كبرى المختبرات العالمية؟
أم أن الحكاية انتهت منذ البداية في مكتب الوزير، حيث تُقاس الشراكات أحيانًا ليس بالكفاءة… بل بــ”مَن نعرف”.
الذكاء الاصطناعي ليس بروتوكولاً يُوقّع، بل رهانٌ يُخاض.
ومستقبل الأوطان لا يُبنى على مجاملة العواصم، بل على جدارة العقول.