الإصلاح لا يُكتب في جزيرة… والسيادة تُمارَس من الشمال وتُهدر على ضفاف الجنوب الأوروبي
وجّه رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، منشورًا تأطيريًا تحت رقم 11/2025، بتاريخ 8 غشت 2025، إلى كافة أعضاء الحكومة، يرسم من خلاله الخطوط العريضة لإعداد مشروع قانون المالية لسنة 2026. منشور يتحدث بلغة الأرقام والانضباط المالي، يدعو إلى ترشيد النفقات، وتحقيق الأثر، وضبط مصاريف التنقل، والعقلنة في كل ما يتعلق بتسيير الإدارة العمومية، والتقليل من الإنفاق غير المنتج.
في ظاهر المنشور، تُستحضر مفاهيم النجاعة والفعالية والعدالة المجالية، ويُطلب من الوزراء الالتزام الصارم بميزانيات مضبوطة، وعدم الانزلاق نحو نفقات زائدة، خصوصًا في مجالات السفر، النقل، الاستقبال، الدراسات، والتنقلات الخارجية.
غير أن ما يُقال في البلاغ، شيء… وما يُشاهد في الصور شيء آخر.
حين يفقد المنشور ثقله أمام صورة عابرة
تقاطعت معطيات إعلامية وشبكات التواصل على تداول صور ومقاطع تُظهر رئيس الحكومة خارج أرض الوطن، وتحديدًا بإحدى الجزر السياحية الإيطالية، لقضاء عطلة الصيف. الأمر الذي أثار موجة من التساؤلات، ليس عن “الحق في العطلة”، بل عن التوقيت، والوجهة، والدلالة السياسية.
في بلد يعيش على إيقاع أزمات اجتماعية واقتصادية، ويُطلب من المواطن أن يتحمل عبء الإصلاح، أن يُوَفّر الطاقة، ويُراقب فواتيره، ويُؤجل أحلامه… تصبح الصورة القادمة من جزيرة أوروبية محمّلة بكل ما يكسر التوازن الرمزي بين الشعب وممثليه.
حين يمارس الملك السيادة… وتغيب الحكومة عن المشهد
في المقابل، حافظ جلالة الملك محمد السادس نصره الله، كما جرت العادة، على اختياره الرمزي لقضاء عطلته الصيفية بالشمال المغربي، وتحديدًا في مدينة المضيق، في رسالة ثابتة تؤكد على مركزية المجال الوطني في الحضور السيادي، وتُعطي دفعة ضمنية للسياحة الداخلية، وتُكرّس صورة الملك المواطن، الحاضر في تفاصيل الجغرافيا، لا الغائب عنها.
الفرق بين اختيار الشمال والذهاب إلى الجنوب الأوروبي، ليس فقط مسافة، بل وعيٌ سياسي. الملك لم يكن في عطلة فقط، بل في مهمة رمزية متكاملة. أما الحكومة، فقد غابت بصمت، وخلّفت خلفها منشورًا بلا ظل.
الوطنية لا تُدرّس… بل تُمارس
ليس المطلوب من رئيس الحكومة أن يقضي عطلته في خيمة صحراوية أو نُزُل شعبي، لكن حين تكون أنت من يطلب من الإدارة التقشف، ومن الشعب التحمل، لا يمكنك أن تختار وجهة فاخرة، في لحظة مفصلية. لأن المنشور يُقرأ، لكن الصورة تُحفظ.
السياحة الداخلية لا تحتاج إلى حملات إشهارية فقط، بل إلى إشارات سياسية من النخبة. إلى ترويج رمزي يسبق الحملات، ويقودها من الأعلى. وإذا كان جلالة الملك يُصرّ سنويًا على اختيار الشمال، فإن أي سلوك مناقض لذلك يُقرأ باعتباره تراخيًا في الالتزام السيادي بالوطن، لا مجرد تفضيل شخصي.
ثمن الصورة أكبر من تكلفة العطلة
المفارقة أن المنشور التأطيري شدد على ترشيد نفقات السفر والتنقل خارج المملكة، لكن من كتب التوصية اختار أن يبدأ بنفسه في كسرها، دون توضيح، ولا بلاغ، ولا مراعاة حتى لما يروج في الفضاء العام. وحين يصمت المسؤول أمام صور تُتداول، تخرج من سلطة الإنكار لتدخل من باب الاعتراف الرمزي.
الإصلاح، كما تقول الحكومات، يبدأ من الرأس. أما أن يُطلب من المواطن أن يشدّ الحزام، بينما يُحلّ رئيس الحكومة حزامه في منتجع أوروبي، فذلك ليس خطأً سياسيًا فقط، بل عطب في الإدراك الرمزي لمعنى المسؤولية.
ختامًا:
ليس من المقبول أن تكون السيادة حضورًا على الورق، وغيابًا في الواقع. ولا أن تُمنح الحكومة سلطة تدبير زمن الأزمة، بينما هي غائبة عنها. لأن الإصلاح لا يُكتب في جزيرة… والسيادة تُمارس من الشمال، وتُهدر على ضفاف الجنوب الأوروبي.