لم تمنع الإعاقة الجسدية غيلزان، السيدة المغربية البالغة من العمر 39 عامًا، من ركوب أمواج الأطلسي في رحلة محفوفة بالموت، انطلقت من سواحل أكادير نحو جزر الكناري. ثلاثة أيام من التيه في عرض البحر، رفقة 39 مهاجرًا آخر، كانت كفيلة بأن تتحوّل قصتها إلى صرخة مدوّية في وجه وعود “الدولة الاجتماعية” التي ترفعها الحكومة الحالية كعنوان سياسي لعهدها.
كشفت مصادر إعلامية إسبانية، بينها La Voz de Lanzarote، أن غيلزان مبتورة الساقين منذ الطفولة بسبب حادث مروري، وصلت إلى ميناء أريسيفي يوم 30 يوليوز 2025، حيث استقبلها متطوعو الصليب الأحمر ووفّروا لها كرسيًا متحرّكًا جديدًا. لكن خلف هذه الصورة الإنسانية، يطفو سؤال سياسي مرير: ما الذي يدفع مواطنة في وضعية هشاشة قصوى، إلى أن تخاطر بحياتها عبر طريق يُعرف بأنه من أخطر مسالك الهجرة في العالم؟
أسباب الهجرة… من الاقتصاد إلى السياسة
لم تعد “الحريك” في المغرب مجرّد هروب فردي من ضيق العيش، بل تحوّل إلى ظاهرة تعكس اختلالات هيكلية في السياسات العمومية. في حالة غيلزان، تتداخل عدة عوامل:
- انهيار الحماية الاجتماعية الفعلية: رغم الشعارات، يظل ملايين المغاربة خارج دائرة الاستفادة الحقيقية من برامج الدعم، خصوصًا ذوي الإعاقة والفئات الأشد هشاشة.
- البطالة وانسداد الأفق الاقتصادي: نسبة كبيرة من الشباب – وحتى ذوي التجارب – لا يجدون فرص عمل كريمة، بينما تتآكل القدرة الشرائية بفعل الغلاء.
- انعدام الثقة في المؤسسات: غياب آليات مراقبة فعّالة لبرامج الدعم، وتسييس المساعدات الاجتماعية، يجعل المواطن يرى أن الحل الوحيد هو مغادرة البلاد.
- البعد السياسي: في ظل خطاب رسمي يَعِدُ بإصلاحات كبرى، يعيش الشارع إحساسًا متزايدًا بالهوة بين الوعود والتنفيذ، ما يغذي الإحباط والرغبة في القفز نحو “ضفة أخرى” بحثًا عن الكرامة.
حين تتحوّل “حكومة الكفاءات” إلى حكومة العناوين
الحكومة التي قدّمت نفسها منذ اليوم الأول كـ”حكومة كفاءات”، روّجت لصور وزرائها باعتبارهم من النخبة التقنية القادرة على إدارة الملفات الكبرى بكفاءة واقعية. لكن بعد سنوات من التدبير، يبدو أن هذه الكفاءات انحسرت في المؤتمرات والبلاغات والوعود، بينما ظل الواقع الاجتماعي ينحدر.
قصص مثل قصة غيلزان تضع هذه الحكومة أمام مرآة قاسية: فكيف يمكن الحديث عن نموذج اجتماعي جديد، بينما تعبر مواطنة بلا ساقين المحيط في قارب مطاطي لأن السياسات العمومية فشلت في تأمين الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة؟
المفارقة المؤلمة أن هذه الحكومة، بدل أن تتحرّك لمعالجة جذور الظاهرة، تكتفي غالبًا بالحديث عن برامج مؤجلة أو حلول ظرفية، وكأن أزمة الهجرة المعيشية مسألة إحصائية يمكن احتواؤها في الجداول السنوية، لا مأساة إنسانية تعكس فشلًا سياسيًا واقتصاديًا متراكبًا.
من مأساة فردية إلى مرآة وطنية
رحلة غيلزان ليست مجرد حدث إنساني عابر، بل مرآة تعكس التناقض بين الخطاب الرسمي عن “الدولة الاجتماعية” وواقع المواطنين في القرى والمدن الهامشية. هي قصة تُعرّي ضعف شبكات الأمان الاجتماعي، وتؤكد أن البحر – بكل ما فيه من خطر – أصبح في نظر كثيرين أرحم من السياسات العاجزة عن توفير العيش الكريم.
في النهاية، لا يمكن حصر قضية غيلزان في بُعد إنساني فقط، فهي أيضًا شهادة سياسية مؤلمة، تُلخّص كيف تدفع السياسات غير المتكاملة بمواطنيها، حتى ذوي الإعاقات، إلى اختيار طريق الموت على البقاء في وطنهم بلا أفق.