لا أحد يراه في الواجهة، لكنه حاضر في كل قرار. لا يُوقّع المراسيم، لكنه يرسم ملامحها. لا يُخاطب الصحافة، لكنه يُلقنها ما تقول. هو ليس رئيس الحكومة، ولا الناطق باسمها، لكنه المتحكم في مفاتيح المال العام، وفي إيقاع السياسات الاقتصادية، وفي توقيت الخروج من الأزمة، أو البقاء داخلها.
قد يبدو خارج الضوء، لكنه في العمق هو الضوء الذي يوجه كواليس التدبير. هو مايسترو الصمت في أوركسترا الحكومة. ومن هنا تبدأ الحكاية.
المغرب بسرعتين… والمايسترو واحد
منذ سنوات، بدا وكأن المغرب يعيش على وقع سرعتين متضادتين: واحدة موجهة نحو الأسواق والمؤسسات الدولية بلغة المؤشرات الإيجابية، وواحدة أخرى تنغمس في الواقع المحلي المثقل بالغلاء، والبطالة، وتآكل القدرة الشرائية، وفقدان الثقة.
الخطاب الرسمي يتغنى بالتحول الرقمي، وبالثقة في الأسواق، وبتحقيق معدلات نمو واعدة، فيما المواطن في القرى والمدن المتوسطة لا يلمس من هذا التحول سوى شظايا الأسعار، وغلاء الفاتورات، وشبه غياب للخدمات الأساسية.
من يقود هذه المفارقة؟ من يصنع هذه السرعتين؟
ليس هو رئيس الحكومة، الذي غالبًا ما يظهر مرتبكًا في مواجهة الرأي العام، ولا الوزراء الذين يتحركون ضمن هامش محدود من التكنوقراطية الصامتة. الفاعل الحقيقي يوجد في مكان آخر.
إنه “المايسترو”.
في قلب هذه المعادلة، يبرز فاعلٌ يجمع بين السلطتين: سلطة صرف الميزانية، وسلطة التخطيط للمشاريع الكبرى، دون أن يمر عبر المساءلة السياسية.
يتحكم في الصناديق الخصوصية، ويتفاوض مع المؤسسات المالية الدولية، ويرسم أولويات الإنفاق. لكنه لا يمثل حزبًا، ولا يخضع للمحاسبة البرلمانية الحقيقية.
بمعنى آخر، هو من يقرر – من تحت الطاولة – متى تُصرف الإعانات، ومتى تُرفع الأسعار، وأي مشاريع تُبرمج وأيها تُؤجل، ومن أين تبدأ “أجندة التنمية”، ومن يستفيد من “التحفيز الضريبي”.
ولأنه يتحرك في الظل، فهو لا يُمس. لا تلاحقه الانتقادات، ولا تستهدفه الحملات. يُنصت له الجميع، من الوزراء إلى البرلمانيين، ومن الفاعلين الاقتصاديين إلى الإعلام الرسمي.
في سياق التحضير لاحتضان كأس العالم 2030، ازداد نفوذ هذا الفاعل الخفي، بحكم تعدد القبعات التي يرتديها. فهو حاضر في هندسة المشاريع الكبرى، وفي تدبير ملفات التمويل، بل وفي رسم تصورات “المغرب الجديد” الذي يُسوّق كقصة نجاح دولية.
لكن، خلف هذه الصورة اللامعة، يتسرب سؤال بسيط وخطير:
من يراقب هذا الرجل؟ من يحد من سلطته المتنامية؟ من يسائل اختياراته المالية؟ ومن يمنعه من اختزال الاقتصاد في لغة المقاولات الكبرى والعواصم الدولية، على حساب المواطنين الذين لا يملكون تذكرة للحاق بالقطار السريع؟
ما تعيشه البلاد اليوم من توترات اجتماعية، ومن شعور عام بالإجهاد المعيشي، لا يمكن اختزاله في شماعة الأزمات العالمية، ولا في محدودية الإمكانيات.
بل هو نتيجة مباشرة لتراكم اختيارات اقتصادية ومالية مُوجهة، تمت بعقلية نخبوية، تخاطب الصناديق الدولية ولا تصغي إلى أصوات الفقراء، تُجمل التقارير ولا تُصلح الأسواق، تُكافئ التراكمات ولا تُحاسب على الفشل.
ووراء هذا المسار، يقف الرجل نفسه.
نفس التوقيع، ونفس العقلية، ونفس المصالح.
قد تكون لنا حكومة منتخبة، ووزراء يُعيّنون وفق المنطق الديمقراطي، وبرلمان يمارس الأسئلة، وصحافة تتابع الأخبار.
لكن الواقع يُظهر أن كل هؤلاء مجرد “عازفين” ضمن أوركسترا لا يُحدّد إيقاعها إلا مايسترو واحد… لا يُطل على الشاشة، لكنه يتحكم في الريموت.
رجلٌ لا يحتاج إلى حملة انتخابية، لأنه لا يخسر أبدًا.
ولا إلى برنامج حكومي، لأنه يتجاوزهم جميعًا.
الخاتمة: هل نملك شجاعة التساؤل؟
الأسئلة التي يجب أن تُطرح اليوم ليست من يتحمل المسؤولية أمام البرلمان، بل من يتحملها أمام التاريخ؟
من يتحمل وزر البطالة في القرى، واحتكار السوق، والضغط الجبائي على الطبقة المتوسطة؟
من جعل من المغرب وجهتين: واحدة للأرقام وأخرى للبشر؟
ومن سمح بأن يسير الوطن بسرعتين، ليبقى البعض في الخلف، فيما القطار لا يتوقف، ولا أحد يعرف من يقوده فعليًا؟