لا يكاد يمر أسبوع دون أن نسمع عن قرية أو دوار في المغرب العميق يخرج ساكنته للاحتجاج على العطش.
مشاهد متكررة: نساء يحملن القِرَب، أطفال يقطعون الكيلومترات، شيوخ يصرخون طلباً لحق بدهي اسمه الماء الصالح للشرب.
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن أمام مجرد أزمة تدبيرية تقنية؟ أم أن هناك من يستثمر في العطش كأداة سياسية مع اقتراب الانتخابات؟
الظاهرة لا يمكن فصلها عن الفشل الحكومي البنيوي، وعن تضارب المصالح الذي ينخر جسم السلطة التنفيذية.
كيف نفسّر أن وزراء انتقلوا في ظرف سنوات معدودة من طبقة متوسطة إلى طبقة المليارديرات، بينما القرى التي صوّتت لهم تعيش على قطرة ماء؟
لنكن صرحاء: أي حكومة تعاقبت على المغرب جعلت المصلحة الخاصة تسبق العامة.
الفارق الوحيد بين هذه وتلك ليس في الفلسفة أو الرؤية، بل في درجة القدرة على الإخراج الإعلامي والتسويق السياسي.
الفشل الحالي ليس وليد الصدفة ولا هو نتيجة ظرفية للجفاف وحده، بل هو امتداد لمسار طويل من سوء التدبير وغياب المحاسبة.
فمنذ الثمانينات وبلادنا تعلن عن “المخطط الوطني للماء”، “السدود الكبرى”، “استراتيجيات السقي”، لكن في النهاية تبقى القرى تعيش على صهاريج متنقلة.
المغرب العميق هو المختبر الحقيقي لأي سياسة حكومية.
هناك تتجلى الهشاشة، وهناك ينكشف عجز الدولة عن ضمان أبسط الحقوق الدستورية.
الفصل 31 من الدستور المغربي واضح: من حق المواطن أن يتمتع بالماء، الصحة، التعليم، والعيش الكريم.
لكن النصوص تبقى حبيسة الورق، بينما الممارسة اليومية تسير في اتجاه آخر.
والمشكل الأكبر اليوم ليس في ندرة الموارد فحسب، بل في تضارب المصالح.
وزراء يملكون شركات تستفيد من صفقات عمومية، أو يرتبطون بشبكات مالية تُموّل مشاريع الدولة وتُديرها في الوقت ذاته.
ورئيس الحكومة نفسه يجد نفسه في قلب هذا النقاش: كيف يمكن لرجل أعمال يملك إمبراطورية اقتصادية أن يفصل بين مصالحه الخاصة والمصلحة العامة؟
هذا الواقع يطرح سؤال الريع المائي: كيف يُعقل أن تُضَخّ الملايير في مشاريع السقي الكبرى لفائدة ضيعات التصدير، بينما الدواوير المجاورة لا تجد ماءً للشرب؟
وكيف يقتنع قروي في جبال الأطلس أن الوزير الذي يملك آلاف الهكتارات من الضيعات الفلاحية يفكر في معاناته مع العطش؟
السياسة في المغرب تحولت في كثير من الأحيان إلى واجهة جميلة تُخفي تحتها حسابات دقيقة.
الأحزاب التي ترفع شعارات محاربة الفساد والعدالة المجالية، ما تلبث أن تنخرط في منطق اقتسام الكعكة بمجرد وصولها إلى السلطة.
والمعارضة بدورها لا تفلت من هذه القاعدة، إذ تتحول إلى نسخة ثانية للحكومة بانتظار دورها في الاستفادة.
وليس أدل على ذلك من مشهد التعيينات كل خميس في المجالس الحكومية.
حيث تتحول جلسات كان يُفترض أن تُخصص لمناقشة الأولويات والبرامج العمومية إلى فضاءات لتوزيع المناصب على الموالين والمقرّبين.
هذا الطقس الأسبوعي يكشف أن جوهر السياسة عندنا ما يزال قائماً على تقاسم النفوذ، لا على خدمة الصالح العام.
العطش إذن ليس مجرد مشكل مائي.
بل نتيجة هندسة سياسية تُعيد إنتاج نفس النخب ونفس المصالح.
وانعكاس لنظام اقتصادي ريعي يُفضّل حماية اللوبيات الكبرى على حساب حقوق البسطاء.
وأداة انتخابية تُستعمل لتهيئة الأرضية لجولة جديدة من الصفقات السياسية.
الفصل 154 من الدستور ينص على ربط المسؤولية بالمحاسبة.
لكن في الواقع تُربط المسؤولية بالمناصب، والمحاسبة تُدفن في تقارير لا يقرؤها أحد.
النتيجة: الفشل يتكرر، والوزراء يتغيرون، والقرى تبقى عطشى.
الماء هنا يتحول إلى رمز، رمز لفجوة الثقة بين المواطن والدولة.
حين لا يجد المواطن ماءً صالحاً للشرب، فهو لا يرى فقط فشل سياسة عمومية، بل يرى خيانة لعقد اجتماعي يفترض أن يربط الحاكم بالمحكوم.
وفي المدن الكبرى، تُضاء الأبراج وتُشيد المشاريع الضخمة استعداداً للمونديال.
بينما في القرى يخرج الناس يصرخون: “أعطونا الماء”.
هذه هي المفارقة التي تلخّص مغرب اليوم: مغرب بسرعتين، مغرب المركز ومغرب الهامش.
والسياسة الحقيقية لن تُقاس بعدد الملاعب أو الأبراج، بل بقدرة الحكومات على ضمان كأس ماء في بيت قروي.
وحين يصبح الماء رفاهية، فإن العطش لا يعود عطشاً للطبيعة فقط، بل عطشاً للعدالة والكرامة.
وحين يتحوّل الماء إلى ورقة انتخابية، فذلك يعني أن السياسة عطشى أكثر من المواطن نفسه.