الضرائب في أي دولة هي العمود الفقري للميزانية..
لكن في المغرب، تبدو الجبايات أكثر من مجرد أداة مالية؛ إنها مرآة تكشف من يدفع الثمن ومن يستفيد من الاستثناء.
في الواجهة، خطاب رسمي يتحدث عن العدالة الضريبية وضرورة مساهمة الجميع في تمويل الدولة.
لكن في الخفاء، يطل العرّاب، ليعيد رسم الخريطة: المواطن البسيط يُثقل كاهله بالضرائب غير المباشرة، بينما كبريات الشركات تحظى بإعفاءات واسعة.
أكثر من 70% من موارد الميزانية تأتي من الضرائب غير المباشرة:
الضريبة على القيمة المضافة، الرسوم على المحروقات، والاقتطاعات اليومية التي لا يشعر بها الناس إلا حين يشترون خبزهم، يؤدون فاتورة الكهرباء، أو يملؤون خزان سياراتهم.
هنا، يصبح جيب المواطن بنكاً صامتاً يُموّل الدولة، دون أن يكون له رأي في كيفية صرف هذه الموارد.
أما في الطابق العلوي، فالصورة مختلفة.
شركات عملاقة تحقق أرباحاً بالملايير، لكنها تؤدي نسباً ضريبية زهيدة، أو تستفيد من إعفاءات بدعوى تشجيع الاستثمار.
رجل الظل يعرف أن هذه الامتيازات ليست بريئة، بل هي أدوات لضبط الولاءات وضمان استمرار شبكة النفوذ.
فالإعفاء الضريبي ليس مجرد قرار اقتصادي، بل رسالة سياسية تقول: “أنت داخل النادي”.
وتزداد الصورة تعقيداً مع بروز قضايا شخصية تُثير الجدل.
فملف الهبة التي منحها وزير العدل عبد اللطيف وهبي لزوجته على شكل فيلا، ظل لحد الآن بلا توضيح رسمي من إدارة الضرائب.
هل خضعت هذه العملية لمقتضيات المدونة العامة للضرائب؟
هل أُديت عنها الواجبات المستحقة؟
أسئلة مشروعة، لكن الصمت هو سيد الموقف، وكأن العدالة الضريبية نفسها تخضع لميزان مزدوج: حزم مع المواطن البسيط، وتساهل حين يتعلق الأمر بكبار المسؤولين.
المجلس الأعلى للحسابات سبق أن كشف أرقاماً مثيرة: آلاف المقاولات لا تؤدي ضرائبها بانتظام، وملايين الدراهم تضيع كل سنة بسبب التملص والتأجيل.
لكن هذه الأرقام تظل صامتة أمام سطوة العرّاب، الذي يمسك بالخيط الحقيقي: من يُحاسَب ومن يُترك خارج المساءلة.
المفارقة أن المواطن يسمع في الخطب عن “إصلاح الجبايات” و”العدالة الاجتماعية”، لكنه لا يرى سوى عدالة من ورق.
فالضريبة التي يدفعها المعلم أو الموظف أو الحرفي تُقتطع مباشرة من راتبه، بينما الثروات الكبرى تمر في مسالك خفية، لا يصلها الضوء.
العرّاب هنا ليس مجرد محاسب للدولة، بل هو مهندس لنظام غير معلن: عدالة ضريبية في الواجهة، ولا مساواة في العمق.
وحين يُسأل: لماذا يتحمل الفقراء والطبقة الوسطى العبء الأكبر؟ يكون الجواب دائماً جاهزاً: الظرفية الاقتصادية، الحاجة إلى تمويل الاستثمار، تشجيع المقاولة.
لكن الحقيقة أن هذه الظرفية الدائمة تحولت إلى قاعدة حكم، تُعيد إنتاج نفس التفاوتات جيلاً بعد جيل.
في النهاية، يظل السؤال معلّقاً: هل يمكن الحديث عن مواطنة متساوية حين تتحول الجبايات إلى ميزان أعوج؟
أم أن العرّاب، من وراء الستار، سيبقى هو المايسترو الذي يحدد من يدفع الثمن ومن يستفيد من الإعفاء… وحتى من يمرّ من تحت أنظار الضرائب بلا مساءلة؟