كلما اقتربت الانتخابات في المغرب، يتحوّل المال العام إلى مرآة مشروخة تعكس التناقضات الكبرى في تدبير الشأن العام.
فما نعيشه اليوم ليس مجرد نهاية ولاية حكومية عادية، بل هو مشهد مكثّف من سياسة الوداع: إنفاق متسارع على مشاريع عابرة، وتجميد أو ترحيل للملفات الاجتماعية الأكثر إلحاحاً.
من يتتبع تفاصيل الصفقات المعلنة في الشهور الأخيرة، يكتشف أن الملايير تتدفق على معارض ومهرجانات وتجهيزات ظرفية، وعلى بنايات مؤقتة تُشيد ثم تُهدم، بينما المدرسة العمومية ما زالت ترزح تحت الاكتظاظ، والمستشفى العمومي يئن تحت وطأة خصاص الأطر والمعدات، والقرى النائية تعيش عطشاً يومياً وحرماناً من أبسط الخدمات.
أي منطق سياسي يقبل أن تُموَّل الزينة العابرة، وتُترك الجذور الحقيقية للتنمية في العراء؟
الأمر لا يتوقف عند سوء ترتيب الأولويات، بل يتجاوز إلى ما هو أخطر: المال العام يُستعمل كأداة انتخابية، لا كوسيلة لبناء الدولة. فالمشاريع العميقة، التي تتطلب التزاماً مالياً طويل الأمد، تُقابل بالتأجيل والانتظار، بينما المشاريع السريعة ذات الأثر البصري والإعلامي تحظى بتمويل فوري. هكذا يتغذى ما يمكن تسميته بـ”اقتصاد الدعاية”، على حساب “اقتصاد الدولة”.
المعارضة التقطت هذه المفارقة، فاتهمت الحكومة بأنها تُمارس “الهروب إلى الأمام”، حيث تُطلق ما يُجمّل اللحظة، وتُرحّل ما يثقل الميزانية.
لكن المسألة أبعد من مجرد جدل بين أغلبية ومعارضة: إنها تعكس خللاً بنيوياً في الممارسة السياسية، حيث تغلب الحسابات القصيرة على المنطق المؤسساتي، وتُختزل الدولة في ولاية انتخابية لا تتجاوز خمس سنوات.
التاريخ القريب شاهد على أن هذه اللعبة تتكرر مع كل دورة انتخابية.
لا تراكم إيجابي، لا استمرارية في الإصلاح، ولا رؤية بعيدة المدى. فقط دورة جديدة من الوعود المؤجلة والالتزامات المرحّلة. وما يزيد الطين بلة أن هذه السياسة تصنع مواطناً فاقد الثقة، يتساءل في كل مرة: ما جدوى الانتخابات إن كانت النتائج تنحصر في استعراضات آنية، بينما قضاياه اليومية تبقى مؤجلة؟
ويبقى السؤال المُلح: من يراقب المال العام في لحظة الفراغ السياسي؟ ومن يجرؤ على محاسبة من يجعل من آخر أشهر الولاية فرصة لصرف الملايير على مشاريع استعراضية؟ الجواب ليس في بلاغات رسمية ولا في تصريحات تقنية، بل في أخلاقيات الحكم نفسها.
فالحكومة، مهما كان لونها، مؤتمنة على المال العام حتى آخر يوم من ولايتها، غير أن ما نراه اليوم يوحي بأن واجب الاستمرارية ضاع وسط لهفة الانتخابات.
إننا أمام مشهد يُعيد إنتاج صورة “دولة بسرعتين”: سرعة في صرف المال على ما يُبهج العين ويُرضي اللحظة، وبطء أو تجميد حين يتعلق الأمر بالحقوق الاجتماعية التي تصنع المستقبل. وفي قلب هذا المشهد يقف “مايسترو الميزانية”، يضبط إيقاع الصرف بين ما يُسمح بمروره وما يُؤجَّل، وكأن المال العام أوركسترا تُعزف على مقاس السياسة الانتخابية لا على مقاس حاجات الدولة.
وهنا يطرح السؤال المفخخ: هل نملك الشجاعة لوضع حد لهذه اللعبة المتكررة، أم سنظل ندور في حلقة الملايير العابرة والالتزامات المؤجلة، حيث تُصرف الثروات على عتبة الوداع، بينما يبقى المواطن ينتظر قطار الإصلاح الذي لا يصل أبداً؟