بعد سنوات من النقاشات المتقطعة والتعديلات المترددة، وُلد القانون الجديد للمسطرة الجنائية، ليُقدَّم في صيغته الرسمية كإصلاح جوهري لمنظومة العدالة الجنائية بالمغرب.
نصٌّ صادقت عليه المؤسسة التشريعية بعد جدل واسع، وصدرت صيغته النهائية في الجريدة الرسمية تحت رقم 1.25.55، في لحظة وُصفت بأنها مفصلية، لكنها في العمق تثير من الأسئلة أكثر مما تقدّم من الإجابات.
القانون الذي سيدخل حيّز التنفيذ بعد ثلاثة أشهر، جاء محمّلاً بمجموعة من التدابير التي يبدو أنها كُتبت بعناية لتُرضي الخطاب الحقوقي الرسمي، دون أن تُخفي طبيعتها المزدوجة: بين وعود إصلاحية مُغرية وبين قيود جديدة تُحاصر الفضاء المدني. فالمشرّع لم يكتف بالحديث عن المحاكمة العادلة وحماية الضحايا وتقليص الاعتقال الاحتياطي، بل فتح الباب واسعاً أمام إعادة رسم الحدود بين الدولة والمجتمع، تحت عنوان “تنظيم الحق في التقاضي”.
من بين المستجدات البارزة، ما نصّت عليه المادة 7 التي قيدت إمكانية لجوء الجمعيات إلى القضاء بشرط الحصول على صفة “المنفعة العامة” وبترخيص من وزارة العدل.
هذا المقتضى لم يمر مرور الكرام، إذ قرأته جمعيات حماية المال العام كإشارة إلى رغبة في تحجيم دورها وتقليص قدرتها على ملاحقة ملفات الفساد أمام المحاكم. بعبارة أخرى، تحوّل شعار “المجتمع المدني شريك في الرقابة” إلى نص قانوني يُعيده إلى موقع التابع.
في المقابل، حاول القانون أن يلبس ثوب الإصلاح الحقوقي، عبر التنصيص على إلزامية إشعار أقارب الموقوفين، وتعزيز حضور الدفاع منذ المراحل الأولى للأبحاث، وإقرار الطعن في شرعية الاعتقال الاحتياطي الذي جرى وصفه كتدبير استثنائي.
كما نص على رفع سن الرشد الجنائي إلى 18 سنة، واستحداث قضاة متخصصين للأحداث، فضلاً عن إحداث مؤسسة “قاضي تطبيق العقوبات” لمراقبة تنفيذ الأحكام وضمان حقوق السجناء، مع وعود بتدابير تحفيزية كتخفيض العقوبة وإعادة الإدماج.
لكن خلف هذه العناوين البراقة، يقف الواقع كمرآة كاشفة: أكثر من ثلث السجناء في المغرب يوجدون رهن الاعتقال الاحتياطي، والمحاكم تعاني خصاصاً في الموارد البشرية والتجهيزات، فيما مكاتب المساعدة القانونية بالكاد تشتغل، وغالباً ما يظل الضحايا والمتقاضون يواجهون وحدهم بيروقراطية معقدة.
الإصلاح هنا يبدو أقرب إلى نصوص متفائلة منه إلى ممارسة مضمونة.
الوزارة الوصية ربطت الإصلاح الجديد بروح دستور 2011 وبالتوجيهات الملكية الداعية إلى ترسيخ دولة الحق والقانون. الوزير عبد اللطيف وهبي قدّم النص باعتباره “ركيزة أساسية” في بناء عدالة عصرية قادرة على تعزيز الثقة الدولية، خصوصاً في أفق الاستحقاقات المقبلة وعلى رأسها تنظيم كأس العالم 2030. لكن المفارقة أن القانون الذي يُسوَّق كأداة لتعزيز صورة المغرب في الخارج، جاء في الداخل مُحمّلاً بمقتضيات تُضيّق على الفاعلين الذين يطالبون أصلاً بالشفافية والمحاسبة.
الأسئلة المقلقة لا تتوقف هنا: هل يملك الجهاز القضائي الإمكانيات لتفعيل مؤسسة “قاضي تطبيق العقوبات” بما يلزم من موارد ومتابعة؟ هل سيُترجم مبدأ “الاعتقال الاحتياطي الاستثنائي” إلى أرقام واقعية تُقلّص عدد السجناء، أم سيبقى مجرد عنوان في المذكرات الوزارية؟ ثم، كيف يمكن إقناع المجتمع المدني بأن العدالة أكثر انفتاحاً، في الوقت الذي تُغلق فيه أبواب المحاكم أمام الجمعيات غير الحاصلة على إذن رسمي من وزارة العدل؟
القانون الجديد إذن يطرح مفارقة حقيقية: إصلاحات حقوقية مُعلنة في النصوص، مقابل تضييقات ملموسة على مستوى الأدوار المدنية.
إصلاح يتحدث عن قرينة البراءة وحماية الضحايا، لكنه يزرع في طيّاته بذور التبعية والرقابة على الجمعيات. ولعل هذا ما يجعل النقاش حوله لا ينتهي بمجرد نشره في الجريدة الرسمية، بل يبدأ الآن، في المحاكم، وفي تقارير الجمعيات، وفي تجارب المواطنين الذين يواجهون يومياً أبواب العدالة.
الإصلاح الحقيقي، في النهاية، لن يُقاس بعدد المواد المعدلة، ولا بعدد الصفحات المضافة إلى القانون، بل بمدى شعور المواطن العادي بأن العدالة صارت قريبة، شفافة، وعادلة. وما لم يتحقق ذلك، فإن القانون سيظل حلقة جديدة في مسلسل إعادة ترتيب ميزان القوى، أكثر منه جسراً نحو عدالة حقيقية.