من الوزير إلى أصغر مسؤول… من يحاسب من؟
لم يعد الحديث عن انهيار المنظومة الصحية في المغرب مجرد ترف صحفي أو شعارات احتجاجية تُرفع في الشارع.
اليوم، تحوّل السؤال إلى معضلة سياسية وأخلاقية: من يحاسب من على تدهور الصحة؟ وهل يمكن لدولة تتحدث عن الإصلاح الشامل وتتباهى بإنجازات في ملفات كبرى أن تُغضّ الطرف عن مأساة مستشفيات تتحول يومياً إلى مسارح للموت البطيء؟
كشفت مصادر إعلامية أن المواطن المغربي لم يعد يطلب أكثر من حق بسيط: سرير نظيف، دواء متوفر، طبيب حاضر، وحاضنة اصطناعية تنقذ حياة مولود.
لكن الواقع يصفع الجميع: مستشفيات بلا تجهيزات، مراكز صحية بلا أطباء، وأمهات يلدن على الأرض أو يطوفن بين المستشفيات بحثاً عن سرير شاغر.
السؤال الجوهري: أين كانت وزارة الصحة وهي تتحدث عن “إصلاح المنظومة” في وقت تُسجل فيه كل يوم وفيات يمكن تفاديها؟ الوزير الذي يقدّم نفسه كإصلاحي ويزور المستشفيات أمام الكاميرات، هل يحاسب نفسه أولاً على ميزانيات صرفت دون أثر ملموس؟ هل يعترف أن وزارته غرقت في لغة الشعارات أكثر مما انخرطت في إصلاح جذري؟
لكن المسؤولية لا تقف عند الوزير وحده. فمدراء المستشفيات، رؤساء المصالح، المندوبون الجهويون، كلهم جزء من سلسلة قرارات ولامبالاة أدت إلى هذا الانهيار.
أي معنى للمحاسبة إذا كان المواطن يواجه يومياً غياب الدواء والتجهيزات، بينما المسؤولون يتنقلون بين المكاتب في سيارات الدولة المكيّفة؟
البرلمان بدوره لم يسلم من المسؤولية. فما جدوى الأسئلة الكتابية والشفوية إذا لم تتحول إلى لجان تقصي ومحاسبة حقيقية؟ وما جدوى التصفيق داخل القبة إذا كان المواطن يصرخ من قهر الانتظار في الممرات الباردة لمستشفى عمومي؟
الأدهى أن المجلس الأعلى للحسابات، الذي يُفترض أن يرصد اختلالات تدبير المال العام، يكتفي في كثير من الأحيان بتقارير مؤجلة لا تصل إلى مستوى المتابعة السياسية أو الجنائية.
وكأن المحاسبة صارت مجرد أوراق تُطوى في رفوف المؤسسات بدل أن تتحول إلى محاكمات سياسية تُعيد الثقة للمواطن.
إن السؤال لم يعد: “كيف نصلح المنظومة الصحية؟” بل صار: “كيف نحاسب من تسبب في تدهورها؟” هل حوسب وزير سابق عن قرارات كارثية أرهقت المواطنين؟ هل وُجهت أي متابعة لرؤساء مصالح أغرقوا المستشفيات في العشوائية والزبونية؟ هل تمت محاسبة أي مسؤول على وفاة طفل بسبب غياب حاضنة أو دواء؟
الصحة في المغرب ليست مجرد قطاع، بل هي مرآة لمدى جدية الدولة في حماية كرامة الإنسان.
فإذا كانت الملايير تُصرف على الملاعب والمهرجانات والمؤتمرات، بينما يظل المواطن عاجزاً عن العثور على سرير في مستشفى، فإن الأزمة ليست تقنية ولا مالية، بل أزمة إرادة سياسية ومحاسبة حقيقية.
الوزير اليوم، ومن قبله الوزراء السابقون، مطالبون بالاعتراف: هل فعلوا كل ما بوسعهم لإنقاذ المنظومة؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فمن يحاسبهم؟ البرلمان؟ القضاء؟ أم التاريخ الذي لا يرحم؟
يبقى في النهاية أن المحاسبة ليست انتقاماً، بل هي الضمانة الوحيدة حتى لا يتحول الحق في العلاج إلى ترف طبقي، وحتى لا يُدفن المواطن مرتين: مرة تحت الأنقاض الصحية، ومرة تحت صمت المؤسسات.