لا يُصلح الدولة من يجهل طبيعتها، ولا يُصلح السياسة من نسي أصلها، أصل السياسة، كما قال أرسطو، هو العيش المشترك، لكنها تحوّلت في زمننا هذا إلى أقصر طريقٍ للعيش المترف.
الأحزاب التي كانت تُنجب الفكرة صارت تُنجب الولاء، والتمثيل الديمقراطي لم يعد سوى قناعٍ لسلطةٍ تُعيد إنتاج نفسها بأسماءٍ مختلفة ووجوهٍ متشابهة.
في المغرب، كما في أغلب الديمقراطيات الهشّة، لم يعد الحزب السياسي مؤسسةً للفكر العمومي، بل أداةً لتدبير الشرعية لا لتوليدها.
وحين فُقدت الثقة بين المواطن والفاعل الحزبي، صار الناس يراقبون السياسة كما يُراقب المتفرج مسرحًا يعرف نهايته مسبقًا. انتخاباتٌ تُدار بالوجوه نفسها، وبرامج تُنسى بعد التصويت، وتحالفات تُبنى على حساب القناعات.
ومع الوقت، تَحوّل الحزب من جسرٍ بين الدولة والمجتمع إلى جدارٍ يفصل بينهما.
الخلل بنيوي لا تقني. فحين تُختزل السياسة في الحملات، والقيادة في الشخص، والديمقراطية في الصناديق، تُصاب الدولة بالعمى البيروقراطي، ويصاب المجتمع باليأس السياسي. فالديمقراطية ليست فقط آليةً للحكم، بل ثقافةٌ أخلاقيةٌ تقوم على صدق الوساطة وشفافية التمثيل.
وما لم تُصلح الأحزاب هذا الخلل في داخلها، فكل إصلاحٍ من فوق سيبقى هشًا كطلاءٍ فوق صدأ.
لقد أنتجت العقود الأخيرة جيلًا من الفاعلين بلا فعل، ومن الزعماء بلا مشروع.
تشكّلت طبقة سياسية ترى في الدولة خزينةً لا فكرة، وفي المنصب غنيمةً لا مسؤولية.
صار المال يشتري الشرعية، والإعلام يصنع الزعامة، وغابت الفكرة التي كانت تُنير الضمير السياسي.
إنها مفارقة زمنٍ أصبح فيه الوصول إلى السلطة أسهل من الوصول إلى المعنى.
الإصلاح السياسي لا يُقاس بعدد النصوص الدستورية ولا بعدد اللجان، بل بقدرة المجتمع على إنتاج إنسانٍ سياسيٍّ يملك الجرأة على الفكرة قبل الجرأة على الخطاب.
نحتاج إلى أحزابٍ تتنفس الفكر لا المصلحة، وتُفرز القادة لا الزبناء أحزابٍ تُحاسب نفسها قبل أن تطالب بمحاسبة الدولة، وتُعيد الاعتبار للسياسة كفنٍّ شريفٍ لإدارة الاختلاف، لا لتدبير الامتياز.
الدولة التي تسمح بانقراض الفكر الحزبي تزرع هشاشتها في صميم مؤسساتها، فحين يصبح البرلمان غرفة صدى للسلطة، ويتحوّل التعدد الحزبي إلى تعددٍ في اللاّفكرة، تغيب السياسة وتظهر الشعارات، ويحل الخطاب مكان الفعل.
وكلما زادت الضوضاء في الكلام، ازداد الصمت في القرار.
الاحتجاجات الشبابية وموجات السخرية السياسية ليست انحرافًا عن الديمقراطية، بل عودةٌ إلى معناها الأول: المساءلة.
فحين يصمت الحزب، يتكلم الشارع، وحين تغيب الوساطة، يولد الرفض، جيلٌ جديد لا يُطالب بإصلاحٍ تجميلي، بل بإصلاحٍ يُعيد المعنى. وعيه تجاوز لغة البلاغات إلى لغة الكرامة.
وإذا لم تفهم الأحزاب هذا التحول، فستستيقظ يومًا لتجد نفسها خارج التاريخ.
إن أخطر ما يواجه الدولة ليس المعارضة ولا الشارع، بل هذا الفراغ الأخلاقي في السياسة الذي يجعل من الفساد أسلوبًا للتدبير لا استثناءً منه.
فحين يفسد التمثيل، تُصاب الدولة بالوهم: تظن نفسها مستقرة وهي تفقد جذورها ببطء. فالاستقرار لا يُبنى بالهدوء، بل بالثقة؛ والثقة لا تُمنح، بل تُكتسب عبر الصدق والمساءلة.
الإصلاح السياسي الحقيقي يبدأ من الاعتراف بأن الأحزاب لم تعد مؤهلة لقيادة الإصلاح، وأن أول خطوةٍ في الإصلاح هي أن تعترف المنظومة الحزبية بمرضها: من داء التوريث، ووباء الريع، وإدمان التبعية.
فحين يُشفى الحزب، تتعافى الدولة، وحين تستعيد السياسة معناها، يستعيد الوطن روحه.
ليست السياسة أن نُمسك السلطة، بل أن نُمسك المعنى. وليست الدولة أنظمةً وإدارات، بل عقدًا أخلاقيًا بين من يحكم ومن يُحكم.
وحين يسقط المعنى، تُصبح المؤسسات ديكورًا باهتًا فوق فراغٍ عميق. الإصلاح لا يبدأ من قصور الحكومة ولا من مكاتب الأحزاب، بل من سؤالٍ صادقٍ يطرحه كل مواطنٍ على نفسه:
هل ما نعيشه اليوم يُسمّى سياسة… أم مجرّد هندسةٍ دقيقةٍ للّاسياسة؟
