لا شيء يختبر جوهر السلطة مثل زمن الاحتجاج. فحين تهتزّ الأرض تحت أقدام الدولة، لا تُقاس الشرعية بالخطاب ولا بالشعارات، بل بقدرتها على البقاء متماسكة وسط التحوّل.
في المغرب، يقف الملك في موقعٍ فريد بين التاريخ والمستقبل؛ ليس نقيضًا للتغيّر، بل مهندسه الهادئ. فالمؤسسة الملكية لا تواجه الموجة بإنكارها، بل تُعيد توجيهها لتخدم منطق الاستمرارية.
زمن الاحتجاج الذي يعيشه المغرب اليوم لا يُهدّد الدولة بقدر ما يختبر قدرتها على التجديد، فجيلٌ رقميٌّ جديد يطالب بلغةٍ مختلفة، فيما تختبر السلطة مهارتها القديمة في الإصغاء دون انكسار.
بين الثابت والمتغيّر، تُعيد المملكة رسم فلسفتها السياسية الأعمق: دولة تتحرك ببطءٍ محسوب، تُبدّل السرعة لا الاتجاه، وتُراجع ذاتها دون أن تفقد هيبتها.
في هذا السياق، يكتسب الخطاب الملكي المرتقب أمام البرلمان أهمية تتجاوز حدود البروتوكول الدستوري لافتتاح الدورة الخريفية.
فالكلمة الملكية لم تعد مجرّد إعلانٍ عن الأجندة التشريعية، بل أصبحت تقليدًا سياسيًا تُعاد من خلاله صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وضبط الإيقاع بين الشرعية التاريخية والمطالب الاجتماعية المتجدّدة.
البلاد تعيش لحظة حساسة، تتقاطع فيها حرارة الشارع مع برودة القرار، وتتصادم فيها مطالب الكرامة والمحاسبة مع واقعٍ اقتصاديٍّ ضاغط.
وسط هذا الضجيج، يتقدّم صوت الملك باعتباره الضامن الأخير لوحدة المعنى.
الخطاب المنتظر ليس ردًّا على احتجاجات جيل Z212 فحسب، بل قراءة في روح المرحلة، فالمؤسسة الملكية، بخبرتها الطويلة في إدارة الأزمات، تدرك أن الإنصات لا يعني الضعف، وأن الاستقرار لا يعني الجمود. لذلك يستبعد المراقبون أيّ توجهٍ نحو إعلان استقالة الحكومة أو حلّها، لأن منطق الدولة في المغرب يقوم على الإصلاح الهادئ لا الانفعال اللحظي.
لكنّ الباب يبقى مفتوحًا أمام خيارٍ مدروس: التعجيل بالانتخابات التشريعية كآلية لتجديد الثقة دون المساس بتوازن النظام.
في فلسفة الحكم المغربي، تُدار الشرعية كرصيدٍ تاريخي لا كتنازلٍ سياسي، الملكية هنا ليست مجرد مؤسسة دستورية؛ إنها مركز الثقل الذي يحافظ على استقرار الدولة في زمنٍ تتغيّر فيه قواعد اللعبة السياسية عالميًا.
القوة ليست في السيطرة، بل في القدرة على البقاء وسط العاصفة.
من “انتفاضة الخبز” سنة 1981، إلى الإضرابات الاجتماعية في التسعينات، مرورًا بحركة 20 فبراير سنة 2011، ظلّ ردّ الفعل الملكي يتّسم بالاتزان: لا قمع شامل، ولا استسلام تام، بل إصلاحات محسوبة تحفظ هيبة الدولة وتعيد توجيه المشهد نحو التهدئة.
الملكية المغربية، عبر مسارها الطويل، طوّرت ما يمكن وصفه بـ”ذكاء الاستمرارية”: تُبدّل السرعة دون أن تغيّر الاتجاه، وتُراجع الأدوات دون أن تمسّ الجوهر.
ولذلك، استطاعت أن تظلّ مركز السلطة الرمزية في نظامٍ تعدّديٍّ متحوّل، بينما تعاقبت الحكومات وتغيّرت الوجوه وبقيت الدولة هي الفاعل الأوحد في هندسة المعنى.
الموجة الاحتجاجية الراهنة التي أطلقتها فئة الشباب تحت مظلّة “جيل Z212” تختلف عن جميع أشكال التعبئة السابقة.
فهي لا ترفع شعارات أيديولوجية ولا تنتمي لتنظيماتٍ حزبية؛ بل تتحدث بلغة الأخلاق السياسية والعدالة الاجتماعية.
إنها حركة وعيٍ قبل أن تكون حركة غضب، جيلٌ رقميٌّ يعيش العالم بأسره على شاشة هاتفه، ويقيس شرعية السلطة بقدرتها على الفهم لا بالخطاب.
في المقابل، تُدير الحكومة الحالية مشهدًا مأزومًا بخطابٍ تقنيٍّ متخشّب، ما جعل المسافة بينها وبين الشارع تتّسع إلى درجة العزلة السياسية.
حين تفشل النخبة في إنتاج المعنى، يتقدّم الملك لإعادة هندسة المشهد.
فالملكية في المغرب ليست فاعلًا سياسيًا فحسب، بل ضامنٌ رمزي لوحدة الدولة ومصدر لإعادة إنتاج الثقة في لحظات الانقسام.
ولهذا، يُنتظر أن يحمل الخطاب الملكي المقبل رسائل مزدوجة: طمأنة للمجتمع بأن الدولة تُصغي لنبض الشارع، وتنبيه للنخب بأن شرعية السلطة لا تُكتسب بالخطاب، بل بالكفاءة والمسؤولية.
جلالة الملك، كما عُرف عنه، لا يخاطب الأزمة بل يتحدّث من فوقها، سيُعيد التأكيد على الثوابت الوطنية: وحدة التراب، سيادة القرار الاقتصادي، وعدالة التنمية، وسيذكّر بأنّ الإصلاح لا يكون ردّة فعل، بل مشروعًا ممتدًا في الزمن.
فالدولة التي تصمد ليست تلك التي تتغيّر بسرعة، بل التي تعرف متى تُبدّل جلدها دون أن تُبدّل روحها.
منذ أربعة عقود، والمغرب يُعيد إنتاج المعادلة نفسها بصيغٍ متجددة:
احتجاجات 1981 كانت صرخة جوع، إضرابات 1990 كانت نداء كرامة، حركة 20 فبراير طالبت بالحرية،
أما احتجاجات 2024 و2025 فهي بحث عن عدالة اقتصادية ومحاسبة سياسية.
كل محطةٍ من هذه المحطات كانت تُثبت أن الدولة قادرة على الإصغاء دون أن تنكسر، وعلى تعديل المسار دون أن تفقد توازنها.
في التجربة المغربية، الصمت ليس ضعفًا، بل جزءٌ من أدوات الحكم.
فالملكية تدير الأزمات بتدرّجٍ محسوب، تحوّل الاحتجاج إلى طاقةٍ تفاوضية، والغضب إلى مادةٍ إصلاحية، هي دولةٌ تُبقي على تماسكها من خلال قدرتها على امتصاص التناقضات لا سحقها، وعلى هندسة التغيير من داخل الاستقرار لا ضده.
لهذا السبب، لا يمكن النظر إلى الخطاب الملكي القادم بوصفه مجرد حدثٍ سياسي، بل باعتباره تمرينًا في فنّ الحكم: كيف تُعيد الدولة إنتاج نفسها دون أن تغيّر شكلها، وكيف تحافظ على الصرامة وهي تُرسل إشارات الإصغاء.
ففي المغرب، لا تنتهي الأزمة عند حدود الحلّ، بل عند حدود الفهم.
والملك، حين يتكلّم، لا يقدّم أجوبة جاهزة، بل يعيد ترتيب الأسئلة.
من هنا، تبدو اللحظة الراهنة استمرارًا لفلسفة الحكم التي جعلت من الاستقرار المغربي استثناءً في منطقةٍ مضطربة.
فالملكية لم تحافظ على قوتها بفضل الصرامة وحدها، بل بفضل المرونة السياسية والفكرية التي سمحت لها بتجديد شرعيتها باستمرار، عبر استيعاب التحوّلات بدل مقاومتها.
الخطاب الملكي المنتظر لن يكون إذًا مجرد افتتاحٍ للدورة البرلمانية، بل إعادة تعريفٍ للعقد بين الدولة والمجتمع في ظلّ جيلٍ جديد لا يخاف من السؤال ولا يقبل الوصاية.
سيذكّر المغاربة بأنّ الشرعية لا تُكتسب بالصوت العالي، بل بالعقل الطويل، وأنّ الاستقرار ليس جمودًا، بل هندسةٌ دقيقة بين الثابت والمتغيّر.
حين يتكلّم الملك محمد السادس، لا يبحث الناس عن المفاجأة، بل عن البوصلة.
وفي كل مرةٍ يتكلّم فيها، تُعيد الدولة المغربية تعريف معنى البقاء.
فالمغرب لا يغيّر نظامه، بل يُحدّث لغته.
وفي هذه اللغة المتجددة، يجد التاريخ طريقه إلى المستقبل، وتجد الدولة مبرّرها الأسمى: أن تبقى، دون أن تتكرّر.
