لم تمضِ سوى أربعٌ وعشرون ساعة بين لغة التهديد ولغة الامتنان.
أمس، كتب طبيبٌ من مستشفى الحسن الثاني بأكادير على صفحته في “فيسبوك” جملةً كفيلة بإشعال الرأي العام:
“سيدي الوزير، عندكم 72 ساعة باش الأطباء اللي توقفوا ظلماً يتم إنصافهم، وإلا غادي يعرف المغاربة المسرحية اللي كاينة فالكواليس.”
لم تكن تلك التدوينة مجرّد انفعالٍ مهني، بل صرخة ضميرٍ خرجت من قلب المؤسسة الصحية، حيث تتقاطع المهنة مع السياسة، ويتحوّل الصمت إلى نظامٍ إداريٍ قائمٍ بذاته.
لكن المفارقة أن الطبيب الذي وعد المغاربة بكشف “المسرحية” عاد بعد يومٍ واحد ليُعلن “تجاوبًا إيجابيًا من الوزارة”، بعد زيارةٍ عاجلةٍ لمسؤولٍ رفيعٍ عن الموارد البشرية قادمٍ من الرباط إلى أكادير.
هكذا، تحوّلت لغة التهديد إلى لغة الشكر، وتبدّلت المواقف كما تتبدّل بيانات الوزارات: بسرعةٍ محسوبةٍ وبعباراتٍ دقيقةٍ لا تُفصح عن شيء.
غير أن ما جرى لا يمكن أن يُطوى باعتباره “تفاهمًا إداريًا”.
فحين يُصرّح موظفٌ عموميٌّ بوجود “مسرحية فساد” داخل مؤسسةٍ تابعة للدولة، فإنّ الأمر يتجاوز الغضب المهني إلى شبهةٍ قانونيةٍ صريحة تستوجب تحرك النيابة العامة، لا زيارةً ميدانية.
فالدستور المغربي، في فصله السادس والثلاثين، يُجرّم كل أشكال استغلال المنصب أو التلاعب بالمال العام، ويُلزم السلطات بمحاربة الفساد ومحاسبة المسؤولين عنه.
كما ينصّ القانون الجنائي، في مواده من 241 إلى 248، على معاقبة كل موظفٍ يبدّد أو يُسيء استعمال الأموال العمومية.
وعليه، فإنّ التراجع عن الكلام لا يُسقط المسؤولية، ولا يُعفي النيابة العامة من واجب التحري.
لقد تحوّل الغضب المهني في المغرب إلى أداة ضغطٍ أخلاقيةٍ مؤقتة؛ يُستعمل لخلق ضجيجٍ رقميٍّ ثم يُطفأ باتصالٍ أو لقاءٍ سريع.
لكن حين يُصبح التهديد بالفضح وسيلة لتحريك الإدارة بدل القضاء، نكون أمام خللٍ أعمق من أي قرارٍ تأديبي: خللٍ في ميزان الثقة بين المواطن والدولة.
الطبيب الذي هدّد الوزير لم يكن بحاجةٍ إلى البطولة، بل إلى الاستمرارية.
إلى أن يُحوّل كلمته إلى شهادة، وشهادته إلى مسار قانوني يحمي المهنة من التسيّب والانتقام.
أما أن يتحوّل القسم الطبي إلى أداة مساومةٍ إدارية، فذلك يعني أن الضمير نفسه صار تحت المراقبة.
اليوم، تقع الكرة في ملعب العدالة.
فالنيابة العامة مدعوةٌ لفتح تحقيقٍ نزيهٍ وشفافٍ، يُعيد للقانون هيبته، وللقسم معناه، وللضمير مكانه.
لأنّ من يُسكت صوت الطبيب بالزيارة، قد يُسكت الحقيقة مؤقتًا، لكنه لا يُلغيها.
وما لم يتحرك القضاء، سيبقى السؤال معلقًا في هواء المستشفى:
من يداوي الفساد… حين يصبح العلاج نفسه جزءًا من المرض؟
