لم يكن قرار الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها (INPPLC) بتوقيف صفقة إعداد «خريطة مخاطر الفساد في قطاع الصحة» مجرّد إجراءٍ إداري، بل لحظة وعيٍ مؤسسي نادرة في نظامٍ اقتصاديٍّ بات فيه الحدّ الفاصل بين المراقِب والمراقَب غائمًا إلى حدّ التواطؤ.
فبحسب البلاغ الرسمي الصادر عن الهيئة، تم تعليق تنفيذ الصفقة رقم 07/2025، وإحالتها على اللجنة الوطنية للطلبيات العمومية، عقب الاشتباه في تضارب مصالح يطال الشركة الفائزة بالمشروع، مكتب Forvis Mazars الفرنسي الأمريكي.
الصفقة، التي تبلغ قيمتها 2.4 مليون درهم وتمتدّ على مدى سبعة أشهر، كانت تهدف إلى إعداد تقييمٍ شاملٍ لبنية الفساد داخل المنظومة الصحية، من المستشفيات العمومية إلى القطاع الخاص وسوق الأدوية.
لكن ما كان يُفترض أن يكون تمرينًا في الشفافية، تحوّل بسرعةٍ إلى اختبارٍ أخلاقيٍّ قاسٍ للمنظومة نفسها.
التحقيق الذي نشره موقع «كاب أنفو» كشف أن المكتب المتعاقد مع الهيئة يرتبط بعلاقاتٍ استشارية وتجارية مع مجموعة «أكديطال»، إحدى أكبر الفاعلين في القطاع الصحي الخاص بالمغرب.
بمعنى آخر، الجهة المكلّفة برسم خريطة الفساد في القطاع، لها مصالح مباشرة مع أحد أبرز المستفيدين منه.
مفارقة تُفرغ المشروع من محتواه، وتجعل «الخريطة» مهدَّدة بأن تُرسم بأقلامٍ اعتادت الاستفادة من خطوطها.
كيف يمكن لمصحةٍ خاصةٍ راكمت أرباحًا ضخمة من النظام الصحي نفسه أن تُسهم، ولو بشكلٍ غير مباشر، في دراسةٍ ترصد اختلالاته؟
هل يمكن لعقدٍ تجاري أن يتعايش مع مبدأ النزاهة؟
وهل يمكن للشفافية أن تولد من رحم تضاربٍ ماليٍّ وأخلاقيٍّ بهذا الحجم؟
المسألة هنا ليست مسألة أرقامٍ أو أسماء، بل فلسفةٌ تُحوِّل الرقابة إلى خدمةٍ استشارية مدفوعة الأجر، والإصلاح إلى مقاولةٍ تُفصَّل على المقاس.
هكذا يُصبح «الفاعل» شريكًا في «المراقبة»، ويُختزل الفساد إلى موضوعٍ للدراسة بدل أن يكون هدفًا للمساءلة.
إنّ قرار الهيئة بتجميد الصفقة مؤقتًا وإحالتها للتحقيق خطوةٌ ضرورية، لكنه أيضًا جرس إنذار بأنّ الخطر الحقيقي في مكافحة الفساد لا يكمن في العجز عن كشفه، بل في من يُكلَّف بالكشف عنه.
فحين يُمنح القلم لمن له مصلحة في إبقاء العتمة، تصبح «الشفافية» مجرّد عنوانٍ جميلٍ على غلاف تقريرٍ مُنمَّق.
وفي النهاية، قد لا يحتاج المغرب إلى «خريطةٍ لمخاطر الفساد» بقدر حاجته إلى إرادةٍ لا تُساوم على من يرسمها.
فالمشكلة ليست في الفساد ذاته، بل في تحوّله إلى استشارةٍ مدفوعة الأجر… تُوقَّع باسم النزاهة.
