From Jokes to Judgment Day… Benkirane Rewrites the Priorities of Morocco’s Young Islamists
لم يكن اللقاء الأخير للأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران مع شبيبة حزبه مجرّد نشاطٍ سياسي عابر، بل لحظة إنسانية وسياسية كثيفة، مزج فيها الرجل بين السيرة الذاتية والخطاب التربوي والنقد الاجتماعي، وبين الحنين إلى البدايات والتأمل في نهايات الزمن السياسي والديني معًا.
كان صوته يحمل آثار التعب، لكن كلماته بدت كمن يبحث في ذاكرته عن آخر خيطٍ يربط الأجيال الجديدة بجذرٍ روحي ضاع في زحمة العصر.
بدأ بنكيران كلامه بنبرةٍ خافتة، يحكي عن صباحٍ متعبٍ كاد يعتذر فيه عن الحضور لولا أنه قال لنفسه: “يمكن غير يشوفوني يفرحوا.”
وهكذا، حضر إلى اللقاء من باب العادة والنية الحسنة، ثم ما لبث أن تحوّل ذلك الحضور إلى خطبةٍ طويلةٍ أقرب إلى جلسة مصارحة مع النفس.
في البداية كانت الدعابة حاضرة كما عُرف بها؛ نكاتٌ عن العمر والوزن ومرحلة الشباب التي ولى زمنها، قبل أن يستغلها لتصويب فكرةٍ رمزية: “ردّوا البال ما تغلّضوش، اللي ما كيردش البال اليوم غيستافق غدا على نتيجة ما غتعجبوش.”
هذه الجملة الصغيرة كانت مدخلًا لخطابٍ طويلٍ حول المعنى المفقود في حياة الإنسان الحديث؛ كيف تبدأ الغفلة من الجسد وتنتهي في الروح، وكيف تتحول التفاصيل اليومية إلى استعارةٍ كبرى لغياب الوعي الجماعي.
شيئًا فشيئًا انتقل بنكيران من الحاضر المرهق إلى ماضيه الشخصي، فحكى عن سبعينات القرن الماضي حين كان، على حد قوله، “موسوعة نكت” في مسبح إيموزار، قبل أن تتغير الحكاية مع صلاةٍ أعادته إلى المسجد، ومع لقاءٍ غيّر وجه حياته سنة 1975. “
رجعنا للجامع، وتبدلت الحرفة… من النكتة إلى الدعوة.” من تلك اللحظة بدأت ملامح الرجل الذي سيصبح لاحقًا أحد أبرز وجوه الحركة الإسلامية المغربية، ثم رئيسًا للحكومة، ثم أمينًا عامًا لحزبٍ يعيش اليوم واحدةً من أكثر لحظاته حساسية.
لكنه في هذا اللقاء لم يكن يتحدث بصفته زعيمًا سياسيًا، بل كعابرِ حياةٍ يحاول أن ينقل خلاصاته إلى جيلٍ لم يعش تلك التجارب.
وبين قهقهةٍ وأخرى، أطلق بنكيران قصصًا عن معلمه الراحل سي زحل، وعن أيامٍ كان فيها الكفافُ عنوانَ النعمة.
“السي زحل كان كيتغطى بجوج بطانيات وكيقول: هذه نعمة ما يحسّ بها إلا اللي بات بلاها.”
كان يستحضر تلك التفاصيل الصغيرة ليقول إن الوفرة التي يعيشها شباب اليوم لم تجلب الطمأنينة، وإنّ الرفاهية المادية لم تعد تعني السعادة، بل “وفرة بلا فرح.”
ومن هناك انتقل بسلاسة إلى نقد الإنسان المعاصر: ذلك الكائن المحاصر بفواتير الماء والضوء والكراء والديون، العالق بين شاشاتٍ تُغريه وواقعٍ يُحبطه.
“الإنسان ديال اليوم مضغوط، ما بقاش كيتنفس، كيقلب غير على مخرج.”
هذا “المخرج”، كما سماه، لا يوجد في الثورة ولا في الغضب، بل في الرجوع إلى الله، إلى الفكرة، إلى الجماعة التي تمنح للحياة سببًا للاستمرار.
ثم رفع صوته وسأل الشباب: “شحال كتعطيو للدين من حياتكم؟ عشرة؟ عشرين؟ مية في المية؟” وأجاب بنفسه: “الدين ماشي مية، هو أكثر من مية، لأنه كيعطيك المعنى والمصير.”
بدا وكأنه يوبّخ الحاضرين بلطف، يذكّرهم بأن الإيمان ليس جزءًا من الحياة، بل الحياة نفسها. شبّه بيت الدنيا الذي يقضي الإنسان عشرين سنة في بنائه بـ«جنةٍ عرضها السماوات والأرض»، وقال بنبرةٍ تجمع الجدّ والفكاهة: “أنا ما باغيش نمشي للنار، بغيت نفلِت منها، وندخل الجنة ولو غير شويّة.”
كانت جملةً إنسانية خالصة تختصر كل فلسفته في الدين: الخوف من النهاية والحنين إلى النجاة.
ولم يفُت بنكيران أن يضيف إلى خطابه تلك اللمسة القرآنية التي يُتقنها، فاستحضر مثالًا لغويًا سمعه على الإنترنت عن الفرق بين “امرأة” و“زوج” في القرآن الكريم، وكيف أنّ الأولى تُستعمل حين تغيب القيم، والثانية حين تستقيم العلاقة، ثم قال: “القرآن ما فيه حتى كلمة زائدة، كل لفظ مقصود بمعناه.”
بهذا المنحى اللغوي التأملي ربط بين النص الإلهي والواقع الاجتماعي والسياسي، مؤكدًا أن الدين ليس طقوسًا، بل نظام معنى يجب أن يوجّه السلوك الإنساني والسياسي معًا.
ومن هنا، انتقل إلى فكرةٍ ظلت محور حديثه: أنّ العمل السياسي، في أصله، عبادةٌ ومسؤولية دينية. قالها بوضوح: “العمل السياسي عمل ديني قبل كل شيء.”
رفض منطق الصدام والثورة والقطيعة مع الدولة، ودافع عن فكرة الإصلاح الهادئ والعقلاني داخل المؤسسات، قائلاً إن الوطن يشبه السفينة، “إلى ما تصلحات، غادي تغرق بينا كاملين.”
في جملته تلك اختزل فلسفة حزبه القديمة في السياسة المغربية: الإصلاح في ظل الاستقرار، لا الثورة في ظل الفوضى. ومع ذلك، بدا صوته يحمل شيئًا من الخيبة، كأنه يحدّثهم عن زمنٍ صار أكثر برودةً من حماسة البدايات.
توجّه إلى الشباب مرة أخرى، بصوتٍ يحمل نبرة أبٍ يخاف على أبنائه من التيه، وقال: “بغيت نشوف فيكم بعد حين الإنسان النموذجي، اللي غادي يلقى الله بقلب سليم، ويدافع على دينه ووطنه وأسرته.”
وأوضح أن التسجيل في اللوائح الانتخابية، وخوض الحملات، والمشاركة في الحياة العامة، ليست تفاصيل بيروقراطية، بل “جهادٌ مدني” في سبيل الوطن.
أراد أن يربط السياسة بالإيمان، والمواطنة بالنية، والعمل التنظيمي بالمسؤولية الأخلاقية.
وفي ختام اللقاء، بدا بنكيران كما عرفه المغاربة: رجلًا يبدأ بالنكتة وينتهي بالموعظة، يضحك وهو يلمّح إلى الموت، ويستعمل المزاح ليقول أخطر الحقائق.
خرج من القاعة كما دخلها، بلا ورق ولا خطّ مكتوب، لكن بكلمةٍ ظلت تطرق الوجدان: أن السياسة، في معناها العميق، ليست صراعًا على المقاعد، بل رحلةً في البحث عن الله داخل صخب الدنيا.
كان اللقاء أشبه بمشهدٍ من مسرح الحياة المغربية، حيث يلتقي الزعيم القديم بالجيل الجديد في قاعةٍ صغيرة، ليتحدث عن الزمن، والجسد، والدين، والحرية، وعن الحلم الذي تآكل تحت ضغط اليومي.
وبين ضحكٍ متقطّع وصمتٍ عميق، بدا أن عبد الإله بنكيران لم يكن يلقن دروسًا بقدر ما كان يعترف بصدق: أن الإنسان، كيفما كانت مسيرته، يبقى مهددًا بالتيه إن فقد المعنى، وأنّ المعنى، في النهاية، لا يُصنع في المكاتب، بل في القلب.
