ملفان يفتحان أبواب الأسئلة حول مصير المليارات التي غادرت الخزينة المغربية باسم الدعم، ولم تترك أثرًا لا في الأسعار ولا في الخدمات.
في بلدٍ تُعلن فيه الحكومات عن الإصلاح أكثر مما تُمارسه،
تتحرك المليارات من المال العام في صمتٍ يشبه السرّ المصرفي،
ثم تختفي دون أثرٍ أو مساءلة.
من “دعم المصحات الخاصة” إلى “دعم الفراقشية”،
السيناريو نفسه يتكرّر: قراراتٌ تتحدث عن الشفافية، وواقعٌ يكتب سطوره بالحبر السري.
كل شيء بدأ من وزارة الصحة.
الوزير أمين التهراوي خرج ليعلن أنه “أوقف الدعم الموجَّه للمصحات الخاصة”.
عبارةٌ حازمة في الظاهر، لكنها فتحت باب الشك أكثر مما أغلقت ملف الدعم.
ففي الوقت الذي انتظر فيه الرأي العام لوائح المستفيدين وأرقام التحويلات،
خرجت كبريات المجموعات الطبية وعلى رأسها “أكديطال” لتؤكد
أنها لم تتلقَّ درهماً واحداً من الدولة.
وزير يتحدث عن دعم أُوقف، وقطاعٌ كامل يقول: لم يكن هناك دعم أصلاً.
فمن نصدق؟
وأين كانت المبالغ التي تحدّث عنها الوزير؟
ومن صادق على تحويلها من الخزينة العامة؟
تقرير المجلس الأعلى للحسابات لم يترك الكثير من المساحة للغموض.
لقد حذّر، بلغةٍ غير دبلوماسية، من “الصناديق الخصوصية” التي تُدار خارج رقابة البرلمان،
وقال إنها تحوّلت إلى عوالم مالية موازية لا تُعرف فيها مسارات المال العمومي.
ومن تلك الصناديق بالضبط خرج ما سُمّي بـ “دعم المصحات”،
كما خرجت أموال “دعم الفراقشية” التي تُقدَّر بالملايير،
والتي يُفترض أنها صُرفت لدعم مستوردي الأغنام والأبقار واللحوم الحمراء وخفض الأسعار.
لكن الأسعار لم تنخفض، واللائحة لم تُنشر، والبرلمان لم يتلقَّ تقريرًا واحدًا مكتملًا.
فهل صُرف الدعم فعلاً؟
أم أن العملية لم تتجاوز الورق؟
ولماذا تصرّ الحكومة على الحديث عن “تحفيز الإنتاج” بينما لا أثر للدعم لا في المزارع ولا في الأسواق؟
وهل يُعقل أن تُصرف المليارات دون أن يُعرف من قبضها؟
أسئلةٌ لم يعد الصمت كافيًا لدفنها.
في قلب هذه الشبكة المالية يقف فوزي لقجع، الوزير المنتدب المكلف بالميزانية،
الرجل الذي يعرف حركة كل درهمٍ يخرج من الخزينة،
ومن يوقّع فعليًا على نفقات تلك الصناديق.
لكن لقجع اختار الصمت صمتًا صار بدوره بلاغًا سياسيًا.
فهل يملك ترف السكوت حين تتعلق القضية بأموال دافعي الضرائب؟
أم أن الأرقام، ببساطة، لا تُحتمل حين تُقال على العلن؟
المال العام لا يُدار بالبيانات الصحفية، ولا يُنفق بالوعود.
في الأنظمة التي تحترم مواطنيها، الوزير الذي يوقّع على الإنفاق هو أول من يشرح للرأي العام كيف وأين ولماذا صُرف.
أما في المغرب، فالمعنى يُقلب: المال يُنفق في الضوء، والمحاسبة تُدفن في الظل.
في الصحة، أُعلن عن دعم لم يوجد.
وفي الفلاحة، أُعلن عن دعم لم يُر.
وبين الوزارتين، تضيع الحقيقة في متاهة الصناديق السوداء التي أصبحت دولة داخل الدولة المالية.
البرلمان يسأل، الحكومة تتهرب، والمواطن يدفع الفاتورة مرتين: من جيبه أولًا، ومن ثقته ثانيًا.
لقد آن الأوان أن يخرج الوزير المكلف بالميزانية ليقول الحقيقة كما هي،
لا بلغة التقارير ولا بلغة التبريرات، بل بلغة الأرقام.
لأن الشفافية لا تكون شعارًا انتخابيًا، بل التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا أمام الأمة.
أين ذهبت المليارات؟
من استفاد؟
ولماذا لا تُفتح ملفات الدعم العمومي أمام الرأي العام؟
أسئلةٌ لم تعد تحتمل الانتظار،
لأن المال العمومي حين يُدار في الظل، يتحوّل إلى ملكية خاصة بلا صاحب.
وما دامت الحكومة تتحدث عن “الإصلاح” دون أن تشرح،
وما دام الوزير المسؤول يختار الصمت بدل التوضيح،
فإن ما خفي من هذه الملفات ليس أعظم فحسب… بل أخطر.
