عرفت نهاية هذا الأسبوع خروج آلاف الشباب في مدن مغربية عدة إلى الشوارع، في موجة احتجاجية أعادت طرح سؤال الثقة بين المجتمع والدولة.
مشاهد الغضب هذه لم تكن مجرد صرخة مطلبية عابرة، بل تعبير عن أزمة أعمق: أزمة حكم، مؤسسات فقدت قدرتها على التمثيل، وحقوق دستورية تُركت حبراً على ورق.
وفي قلب الصورة يبرز وجه صارخ: وزير مالية أصبح “حكومة ظل” يقرر، ويصرف، ويعِد، دون رقيب ولا محاسبة.
فوزي لقجع، الذي يُقدَّم كعرّاب مشاريع المونديال، تجاوز حدود وظيفته التقنية ليتحوّل إلى مايسترو يمسك بكل الخيوط المالية.
الملايير تُصرف على ملاعب وصناديق سوداء لا تُنشر تقاريرها ولا تخضع لتدقيق برلماني أو قضائي، وكأن المال العام صار ملكية خاصة تدار بمنطق “أنا أقرر، والبقية تصفق”.
إنها مفارقة فجة: بلد يغرق في الديون، ونصف شبابه عاطل، بينما الموازنة تُدار كأنها دفتر شيكات مفتوح. الأرقام نفسها لا تكذب: الدين العمومي تجاوز 970 مليار درهم، أي أكثر من 80% من الناتج الداخلي الخام، فيما تخصص الحكومة أزيد من 40 مليار درهم سنوياً لخدمة الدين وحدها، بينما تُرصد مليارات أخرى لبناء ملاعب المونديال وتجديدها، في وقت لا يجد فيه المغاربة سريراً في مستشفى عمومي أو فصلاً مدرسياً يحترم أبسط معايير الكرامة.
المعضلة لم تعد شأناً داخلياً. كبريات الصحف العالمية، من لوموند الفرنسية إلى واشنطن بوست الأميركية، باتت تتناول أخبار الاحتجاجات المغربية كعنوان بارز، لتضع صورة البلد في خانة “النموذج المتعثر”.
تقاريرها تساءلت: كيف لدولة تستثمر المليارات في البنية التحتية الرياضية أن تعجز عن ضمان حقوق أساسية لمواطنيها؟ كيف يمكن لحكومة أن تصمت عن الحقوق الدستورية في الصحة والتعليم والعيش الكريم، بينما دستور 2011 نفسه نصّ صراحة على أن هذه الحقوق مضمونة؟ الصورة الخارجية لم تعد مجاملة، بل صفعة سياسية ودبلوماسية، إذ يتحول الشارع المغربي إلى مرآة تكشف تناقض الخطاب الرسمي مع واقع الحقوق.
ولعلّ أبرز ما يكشف هذا التناقض أن الفصل 31 من الدستور المغربي ينص بوضوح على أن الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية تعمل على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في العلاج والعناية الصحية، والحماية الاجتماعية، والتغطية الصحية، والتعليم الجيد، والسكن اللائق، والشغل، والحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة.
لكن هذه الحقوق الدستورية تحولت، في ظل السياسات الحكومية المتعاقبة، إلى شعارات فارغة.
دستور مكتوب بمداد القانون، لكنه مطبق بمنطق الانتقائية.
ومن المالية إلى الأحزاب، يتضح أن المشهد أكثر قتامة. فما إن ترتفع حرارة الشارع حتى تبدأ بعض التنظيمات في الظهور محاولة الركوب على الموجة، وكأنها كانت في صفوف المعارضة منذ الأزل.
لكن الحقيقة أن أغلب هذه الأحزاب كانت جزءاً من الحكومات السابقة ووقّعت على السياسات نفسها التي أوصلت البلد إلى عنق الزجاجة. إنها أحزاب أشبه بشركات انتخابية موسمية، تعيش من الدعم العمومي أكثر مما تعيش من ثقة المواطنين.
في آخر قانون مالية، بلغ مجموع الدعم العمومي المخصص لها حوالي 200 مليون درهم سنوياً، دون أن يقابله أي إنتاج سياسي أو مجتمعي حقيقي.
هنا يطرح السؤال نفسه بحدة: هل يحتاج المغرب إلى رئيس حكومة تكنوقراط؟ هذا الخيار ليس بدعة ولا غريباً عن التجربة المغربية.
ففي سنة 2002، عيّن الملك إدريس جطو رئيساً للحكومة رغم أنه لم يكن ينتمي لأي حزب سياسي، في تجربة وصفت وقتها بأنها خروج عن المنهجية الديمقراطية لكنها قدمت نموذجاً إدارياً أكثر انضباطاً من حكومات حزبية متعاقبة.
التجارب الدولية بدورها تعطي إشارات مماثلة: إيطاليا في لحظات أزمتها المالية لجأت إلى التكنوقراط مثل ماريو مونتي لإنقاذها من الانهيار، واليونان استنجدت بخبراء اقتصاديين لتفادي الإفلاس، وحتى دول أميركا اللاتينية عرفت نماذج مشابهة حين فشلت الأحزاب التقليدية في إدارة الأزمات.
إن الدعوة اليوم إلى حكومة تكنوقراط ليست نزوة سياسية، بل صرخة عقلانية في وجه واقع متردٍّ. فكيف يمكن لحكومة حزبية أن تقنع الناس بالإصلاح وهي عاجزة عن إصلاح بيتها الداخلي المليء بالمحاصصة والانتهازية؟ وكيف لأحزاب تقتات من الدعم أن تدّعي أنها صوت الشعب بينما لم تقدم شيئاً يوم كانت في موقع القرار؟ المغرب يقف على منعطف خطير: وزير مالية يتصرف كما لو كان دولة داخل الدولة، صناديق سوداء بلا رقابة، أحزاب بلا مصداقية، وبرلمان بلا روح.
وفي ظل كل هذا، يصبح التكنوقراط خياراً لا لتجميل الصورة، بل لاستعادة معنى الحكم الرشيد وربطه بالدستور وحقوق الإنسان قبل أن تفقد الشرعية آخر خيوطها.
المغرب اليوم في عين العاصفة: صورة الشارع صارت مادة للصحافة العالمية، وصمت الحكومة عن الحقوق الدستورية أصبح خطيئة سياسية.
وإذا لم تُفتح صفحة جديدة تقوم على الشفافية، الحقوق، والمحاسبة، فإن الشارع سيبقى هو البرلمان الحقيقي، والاحتجاج هو الحزب الوحيد الذي يعبر عن هموم المغاربة.
