يتقدّم الحديث عن تضارب المصالح في المغرب كلما برزت مشاريع ضخمة تتقاطع فيها السياسة مع الاقتصاد، ويزداد الوضوح بأن الإشكال لم يعد تفاصيل تقنية بقدر ما صار سؤالاً يتعلق بميزان القوة داخل الدولة.
محطة تحلية الدار البيضاء أعادت هذا النقاش بقوة، بعدما رافق إعلان الصفقة ضجيج إعلامي وتقارير أوروبية زادت المشهد التباساً، رغم غياب أي اتهام رسمي مباشر لمسؤولين مغاربة.
الصورة العامة تكشف هشاشة في ضبط مسار الصفقات الكبرى، إذ تُنجز المشاريع ذات الطابع الاستراتيجي داخل دوائر ضيقة لا يعرف المواطن عنها سوى نهايتها، بينما تغيب الشفافية التي تجعل المسار واضحاً من أول خطوة إلى لحظة الترسية.
هذا الغياب يفتح الباب أمام الشكوك، ويحوّل أي فراغ معلوماتي إلى مادة جاهزة للتأويل، حتى حين لا يكون وراء ذلك أي دليل قاطع.
التحقيق الإسباني المعروف بـ“كولدو” زاد طبقة إضافية من الغموض، بعد ورود أسماء وزراء سابقين ضمن سرد لوقائع مرتبطة بتواصل سياسي واقتصادي دولي.
الرباح خرج سريعاً لتفنيد أي علاقة، واعتبر أن ذكر اسمه مرتبط بسياق إسباني داخلي لا يمسّه في شيء. اعمارة التزم الصمت، بينما اتسع النقاش العمومي لأن الملفات العابرة للحدود تتحوّل دائماً إلى ورشة مفتوحة تتقاطع فيها السياسة والدبلوماسية والإعلام والمصالح الاقتصادية.
الظاهرة لا ترتبط بأشخاص أو حكومات، بل ببنية تُسهّل التقاء النفوذ المالي مع القرار العمومي، وتسمح بتكاثر المساحات الرمادية داخل مشاريع كان من المفروض أن تكون الأكثر وضوحاً وصرامة.
الجشع لا يتحوّل خطراً إلا حين يكون القانون ضعيفاً، والرقابة مترددة، ونشر المعطيات انتقائياً، والسلطة الاقتصادية متوغلة في مناطق كان يفترض أن تبقى خارج دائرة المصالح الخاصة.
النصوص القانونية موجودة، لكن فعاليتها لا تظهر إلا حين ترافقها إرادة سياسية ترفض الالتباس وتمنع تحويل المناصب العمومية إلى نقطة التقاء بين القرار السياسي والاستثمار الخاص.
المواطن بدوره يشعر أن الدولة تشتغل بمنطق معلّق بين السرية والانتقائية، ما يجعل الإشاعة أكثر انتشاراً من البلاغات، ويجعل الرواية الخارجية أحياناً أكثر قدرة على الإقناع من الرواية الداخلية.
الصالح العام يحتاج اليوم إلى يقظة مؤسساتية حقيقية، لا بياناتها بل إجراءاتها: شفافية مسارات الصفقات قبل وبعد الترسية، التصريح الإجباري بالمصالح، تقوية الرقابة المالية المستقلة، وإرساء ثقافة إعلامية تقاوم التهويل كما تقاوم التعتيم.
دولة قوية لا تخاف من التفاصيل، ومسؤولون لا يتهربون من الأسئلة، ومؤسسات تعتبر الشفافية قاعدة اشتغال لا استثناءً ظرفياً.
هذا الزمن لا يحتمل مساحات رمادية جديدة، ولا يقبل استمرار تماهي المال مع السلطة في مشاريع تمس مستقبل الماء، الأرض، الصحة، النقل، والاستثمار العمومي.
تضارب المصالح ليس قنبلة إعلامية، بل مؤشر على خلل في هندسة الدولة، وكلما تأخرت المعالجة اتسعت المسافة بين المواطن والمؤسسات، وارتفع منسوب الشك أكثر من منسوب الثقة.
في المغرب، الصالح العام يؤدي الفاتورة حين يربح النفوذ وتخسر الشفافية، واللحظة الآن تتطلّب شجاعة سياسية وحكمة مؤسساتية وقوة قانونية لقطع الخيط الرفيع بين السلطة والمال… قبل أن يصبح علاج الشبهات أصعب من منعها.
