The Problem of Power in the Modern State: A Reading Through the Lens of Baytas’s Discourse
قدّم مصطفى بايتاس، الناطق الرسمي باسم الحكومة، خلال لقائه في “نقاش الأحرار” بمدينة فاس، خطاباً بدا في ظاهره محاولة لإعادة ضبط النقاش السياسي حول دور الحكومة وحدود مسؤوليتها.
تحدث بثقة عن البرنامج الحكومي، وعن الإنفاق الاجتماعي، وعن التراكمات التي ورثتها الحكومة الحالية، وكأنّ تفسير الواقع يمرّ حكماً عبر وثيقة انتخابية لم يأخذ المجتمع بها ما يكفي من التأمل.
غير أنّ ما لم يقله بايتاس أهم بكثير مما قاله. فالإشكال في المغرب لا يكمن في غياب النقاش حول البرنامج الحكومي ولا في تحميل الحكومة أخطاء الماضي، بل في بنية أعمق تتحرك خارج الضوء، وتسبق القرار العمومي، وتحدد مسبقاً مدى قدرة الحكومة على ترجمة وعودها إلى سياسات.
إنها منظومة مصالح متجذّرة تشبه طبقة تحتية صامتة؛ لا تُدرَّس في القانون، ولا تُناقَش في البرلمان، لكنها حاضرة في كل تفاصيل الحياة الاقتصادية.
الحكومة تتحدث عن البرنامج، لكن السؤال الحقيقي ليس: “هل نناقش البرنامج؟”
بل: هل يُسمح للبرنامج أصلاً بأن يتحول إلى واقع؟
فالبرامج تُكتب داخل المؤسسات، لكن التنفيذ لا يتم داخل المؤسسات وحدها. هناك فاعلون اقتصاديون كبار، قطاعات محورية مغلقة، مصالح متوارثة منذ عقود، لديها القدرة على إعادة توجيه أي سياسة عمومية دون أن تظهر في المشهد. لهذه القوى خطوط حمراء لا نراها في النصوص الرسمية، لكنها فعّالة في رسم حدود الإصلاح الممكن.
ولهذا، تتراجع فعالية الإنفاق العمومي رغم ضخامته. فـ 140 مليار درهم للصحة والتعليم، و47 مليار للحوار الاجتماعي، وبرامج دعم اجتماعي واسعة، كلها لا تغيّر الواقع ما دام الواقع محكوماً بمنظومة تتحرك بمنطق النفوذ لا بمنطق الدولة.
وتبرز صورة هذه المنظومة بوضوح حين نقترب مما يعرفه الناس بـ “الفراقشية”؛ تلك الشبكة التي تتغذى على المال العام عبر بوابة الدعم، وتتقلّب بين القطاعات بخفة مذهلة: من الفلاحة إلى المحروقات، ومن النقل إلى التوزيع، ومن المواد الأساسية إلى ملف الدواء—الذي يمثّل أحد أكثر القطاعات انكشافاً أمام اختلالات عميقة تجري بعيداً عن الأعين.
في قطاع الدواء تحديداً، ترتفع الأسعار بلا مبرر، وتختفي بعض الأدوية في لحظات حرجة، بينما تواصل الشركات المهيمنة تحقيق أرباح مريحة بلا منافسة حقيقية. يُقال للمواطن إن التغطية الصحية توسعت، وإن الدولة تدعمه، لكن المستفيد الأكبر ليس المريض، بل من يتحكم في بوابات الاستيراد والتوزيع والتسعير.
ليست هذه حوادث منفردة، بل هي جزء من اقتصاد يُحوِّل المال العام إلى أرباح خاصة، ويحافظ على مصالح تعيد إنتاج نفسها جيلاً بعد جيل.
والأخطر أن الحكومة، بدل مواجهتها، تتعايش معها بمنطق الصمت والتسويات. لا يُفتح ملف الاحتكار، ولا يُعاد النظر في قواعد السوق، ولا تُقترب الامتيازات التي انتقلت من جيل لآخر، حتى بدا الاقتصاد في بعض القطاعات وكأنه ملكية شبه خاصة.
وعندها يصبح خطاب “التراكمات” الذي يقدمه بايتاس محاولة لتفسير معضلة لا ترتبط فقط بالماضي، بل بالحاضر أيضاً. فالمشكل ليس أن الحكومات السابقة تركت اختلالات، بل أن الحكومات الحالية تتجنب الاقتراب من عناصر القوة التي تحافظ على استمرار هذه الاختلالات.
وعندما تختار الحكومة الصمت في الملفات الحساسة، وتحافظ على نفس الوجوه في نفس القطاعات، فهذا ليس ضعفاً أمام التاريخ، بل ضعفٌ أمام الواقع.
والحقيقة أن لا حكومة اليوم تستطيع تغيير واقع تصنعه قوة اقتصادية سبقت السياسة، ولا إصلاح يمكن أن يبدأ ما دام القرار العمومي يمر عبر قنوات لا تتحرك تحت عين المؤسسات، ولا عدالة اجتماعية يمكن أن تتحقق ما دام الدعم العمومي يستقر في جيوب من يملكون القدرة على إعادة تشكيل السوق.
خطاب بايتاس، مهما بدا متماسكاً، ليس سوى اعتراف غير مباشر بالعجز:
عجز حكومة لا تتحكم في جميع أدوات الدولة، ولا تستطيع مواجهة مصالح أكبر من سلطتها،
وأحياناً لا ترغب في المواجهة لأنها تعرف ثمنها.
فالحكومة ليست فقط ضحية لمنظومة النفوذ، بل شريكٌ هادئٌ في استمرارها، ومستفيد من مرونتها، وحارس لصمتها حين يلزم الأمر.
وبذلك يتحول سؤال البرنامج الحكومي إلى سؤال أعمق:
من يملك السلطة الفعلية داخل الدولة؟
هل هي الحكومة المنتخبة؟
أم البنية الاقتصادية القوية التي تتحرك تحت السطح؟
أم شبكات النفوذ التي تتقاطع بين السياسة والإدارة والسوق؟
إلى أن يُطرح هذا السؤال بصراحة وجرأة، وإلى أن تُفتح ملفات الامتيازات وتُراجع بنية النفوذ، سيظل كل إصلاح ناقصاً، وكل إنفاق بلا أثر، وكل برنامج حكومي معلقاً في الهواء.
فالخطاب الذي قدمه بايتاس يشرح الظاهر، لكنّ الأزمة الحقيقية تعيش في الباطن:
في الفجوة بين الدولة القانونية والدولة الواقعية، وفي القرارات التي تُصنع خارج المؤسسات قبل أن تُعلن داخلها، وفي الشبكة الصامتة التي تعيد تشكيل الاقتصاد دون أن تخضع للمساءلة.
وإلى أن تتحول هذه البنية إلى موضوع للنقاش العمومي،سيظل المواطن يعيش بين دولتين:
دولة تتحدث باسمه، ودولة تُدير حياته من وراء الستار.
