وسط احتجاجات متصاعدة وشرخٍ متنامٍ بين الشارع والأحزاب التقليدية، يطفو اسم عمر بلافريج على سطح النقاش العمومي كرمز لسياسي جرئ ترك بصمة مختلفة في البرلمان المغربي، قبل أن يغادر تاركاً فراغاً لا يملؤه سوى حضور وطني استثنائي.
لم يكن مجرد نائب عن فيدرالية اليسار، بل كان وجهاً إصلاحياً يضع الحقيقة فوق كل الحسابات، ويخاطب المجتمع بلغة مباشرة لا تعرف الالتفاف.
حين واجه بلافريج مشاريع قوانين مثيرة للجدل، مثل “قانون تكميم المواقع الإلكترونية”، لم يكتف بالاعتراض النظري، بل كشف بالدليل كيف يمكن لهذه التشريعات أن تقوّض حرية التعبير وتضعف النقاش الديمقراطي.
وعندما طرح ملف الديون العمومية، أصرّ على مطالبة الحكومة بأرقام دقيقة، مؤكداً أن الشفافية ليست ترفاً بل شرطاً لبناء الثقة بين الدولة والمواطن.
حتى في القضايا الاجتماعية الحساسة، مثل إصلاح صندوق التقاعد، ظلّ صوته متمسكاً بقاعدة العدالة، محذراً من أن تحميل الفئات المتوسطة والفقيرة كلفة الإصلاح سيقوّض الاستقرار على المدى الطويل.
بهذه المواقف الصريحة، تحوّل اسمه إلى ضمير يقظ داخل مؤسسة مثقلة بالمجاملة والصمت.
لم تكن جرأته وحدها ما ميّزه، بل بصيرته أيضاً. فقد كان يربط بين التفاصيل التقنية للميزانيات والقوانين وبين الرؤية الأوسع لمستقبل الوطن.
حذّر من أن ضرب المدرسة العمومية هو ضرب لهوية المجتمع، ونبّه إلى أن الاستدانة الخارجية تهديد مباشر للأجيال المقبلة. بالنسبة له، الوطن ليس ملكاً للحكومات المتعاقبة، بل أمانة في عنق الجميع.
تنامي هذه الأيام في ظل الاحتجاجات دعوات متزايدة تطالب بعودة بلافريج إلى الساحة السياسية.
لكن هذه العودة لم تعد مرتبطة بمقعد برلماني محدود التأثير، بل بانتظار مشروع سياسي جديد يقوده، يفتح الباب أمام جيلٍ عطش للوضوح والمحاسبة.
فالمشهد الحزبي المأزوم فقد بريقه، والشباب انسحبوا من صناديق الاقتراع، وصار البحث عن بديل صادق أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
الرهان على بلافريج يتجاوز شخصه ليعانق الفكرة التي يجسدها: سياسة نزيهة، شفافة، قاطعة مع الريع، تستعيد ثقة الناس وتعيد وصل ما انقطع بين الدولة والمجتمع.
النقاش حول عودته إذن ليس حنيناً إلى نائب سابق، بل بحث عن أفق جديد لحياة سياسية فقدت بوصلة الإصلاح.
قد يختار الرجل الاستمرار في صمته، وقد يستجيب لصوت الناس ويعود عبر باب السياسة الواسع.
لكن المؤكد أن حضوره حتى في الغياب يظل شاهداً على حاجة المغرب إلى سياسة جريئة، صريحة، ومتصالحة مع طموحات أبنائه.
التجارب الدولية تبرهن أن الانسحاب لا يعني النهاية. أليكسيس تسيبراس عاد في اليونان بعد انسحاب قصير ليقود اليسار التقدمي من جديد.
جيريمي كوربين ظل مرجعاً للشباب البريطاني رغم خروجه من قيادة حزب العمال. وفي أمريكا اللاتينية، كثير من الوجوه الإصلاحية التي تراجعت عادت لاحقاً لتقود تحولات عميقة.
الخلاصة واحدة: السياسي الذي يجمع بين الجرأة والمصداقية لا يغيب، بل يتحول غيابه إلى انتظار شعبي لعودته.
من هذا المنظور، تبدو عودة عمر بلافريج إن حدثت أكثر من مجرد رجوع شخصي؛ إنها فرصة لإعادة صياغة الحياة السياسية المغربية على أسس جديدة، وربطها بما يجري عالمياً من بحث عن بدائل سياسية أقرب إلى الصدق ووجدان الشعوب.
إن المغرب، في زمن الأزمات، يحتاج إلى أصوات نادرة مثل بلافريج، قادرة على أن تعيد الثقة للسياسة وتجعلها من جديد مرادفاً للأمل لا للخذلان.
